الكاتب: زاهر أبو حمدة
فعلاً، من يهن يسهل الهوان عليه. أو بصورة أوضح: طالما أنت مستضعف نفسك يستضعفك الآخرون ولا سيما عدوك. هكذا حالنا كشعب فلسطيني ينزف في شتى المجالات والساحات. من كان يتصور أن يشترط المانحون الأوروبيون والأميركيون تغيير المنهاج الدراسي في المدارس الفلسطينية أو عدم دفع رواتب عائلات الأسرى والشهداء مقابل استكمال المنح المالية؟ يحصل هذا فقط لأننا استضعفنا أنفسنا وقدمنا تنازلات في بادئ الأمر. قبل 20 عاماً ما كان يخطر في بالهم طرح هكذا قضايا لأنهم كانوا حين يفاوضون أو يطلبون، يتحدثون عن الأمن والمسار السياسي ويعرضون الكثير من الطروحات لأن الفلسطيني امتلك قوة زعزعة استقرار الاحتلال وحلفائه. أما الآن فيتجرأون على الثوابت والخطوط الحمر الفلسطينية، ويبدو آخر أفكارهم الشيطانية هو شطب وكالة "الأونروا" وتصفيتها نهائياً وتحويل ملف اللاجئين الى المفوضية العليا للاجئين، وكأنهم تهجروا نتيجة حرب أهلية أو كوارث طبيعية، وليس نتيجة احتلال مستمر حتى الآن.
تبدأ قصة شطب "الأونروا" وإنهاء عملها بتقليص الخدمات، ومن ثم فصل القطاعات. هذا ما قاله مواربة المفوض العام للوكالة فيليب لازاريني، في رسالة وجهها إلى اللاجئين الفلسطينيين بأن أحد الخيارات المطروحة لدعم المنظمة التي تعاني من مشكلات مالية عدة، يتمثل في "زيادة الشراكات داخل منظومة الأمم المتحدة الأوسع إلى أقصى حد". وبالتالي، "أن يكون من الممكن تقديم الخدمات نيابة عن الأونروا وتحت توجيهها وبما يتماشى تماماً مع الولاية التي تلقتها من الجمعية العامة للأمم المتحدة". هذا يعني فصل قطاعات كاملة عن المؤسسة وتلزيمها لمن يسميهم شركاء، وهم في الأصل المخططون والمنفذون. ويتضح ذلك، مع ما يتسرب مثلاً عن فصل جهاز الأمن في "الأونروا" على الأراضي اللبنانية إلى قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان "اليونيفيل". والسؤال لماذا لا تتبرع القوة وهي جزء من المؤسسة الدولية لصالح الوكالة واقتطاع جزء من التمويل بدلاً من تعهد جزء من المهام؟ الإجابة بسيطة جداً: هذه بداية لما هو مخطط له. في المستقبل، يطرحون تلزيم المدارس وباقي الخدمات للدول المستضيفة أو للمؤسسات الدولية الرسمية أو غير الربحية إلى أن نصل إلى القول: الوكالة ليست مهمة فيكون الإلغاء.
تبرز حجة مدراء الوكالة بالعجز المالي، وهذا ما نسمعه منذ أكثر من 30 عاماً. أما الآن فيربطون حرب أوكرانيا بالتمويل وسياقاته. بدأت الحرب قبل شهرين، لكن الحديث عن العجز ارتبط مع بداية المفاوضات في مدريد مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي. إنها خدعة لا لبس فيها. وهذا مسار يتضح أكثر إذا استمعنا إلى مطالبات الاحتلال المتواصلة بإنهاء عمل "الأونروا". ويبدو أن الوكالة الدولية لا تستمع فقط إنما تنفذ ما يريده الإسرائيليون والأميركيون بحجة الدعم والتمويل.
هنا تبرز مسؤولية الضحية أي الشعب الفلسطيني بفصائله وهيئاته المتنوعة بالوقوف تماماً أمام الإجراءات والمخططات. ونحن نملك أوراق قوة كثيرة، أولها الموقف وليس آخرها التظاهرات والمواجهة. ولكن الأهم هو عدم إبراز الخوف لا سيما على المصير. فالأكيد أن طرفاً آخر يتحمل مسؤولية إيقاظ الرغبة العدوانية عند الجلاد، هو الضحية ذاتها. ولعل قصة الكاتب المصري يوسف إدريس، عن المدرب في السيرك الذي افترسه النمر، تثبت ذلك. وهي حادثة حقيقية وقعت في مصر، التقطها إدريس، وكتبها بطريقته الجميلة وفيها يقول للمدرب الذي افترسه النمر: "إن النمر كان يخافك حين كنت تنزل إلى الحلبة بسوطك وهيبتك ونظرتك الصارمة، ولكنك في ذلك اليوم الذي حدثت فيه الواقعة كنت تفكر في العيال، وتحسب الحسابات التي تجعلك تتحول إلى إنسان خائف على مورد رزقك، ولقد رأى النمر بغريزته ذلك الخوف في عينيك، وهذا ما جعله يتجرأ على مهاجمتك..."، كأن لهذا الخوف رائحة مهيجة، إنها تثير غريزة العدوان عند الأطراف الأخرى. تمر قرب كلب فيعوي عليك بصوت عادي أو استفزازي، فإذا تابعت سيرك على نحو طبيعي قلما يهاجمك، ولكنك إن ركضت أمامه فكأنك تدعوه إلى مطاردتك ومهاجمتك. للخوف ما يشبه الرائحة المشجعة للآخر، وله مظهره المشجع للخصم أيضاً، وهذا الخوف لا يكتفي بتشجيع الحيوانات، بل إنه يشجع غريزة العدوان عند البشر أيضاً. نحن شجعنا الوكالة عند السكوت لدى أول تقليص لخدماتها، لكن الآن لماذا نخاف؟ فالغريق لا يخاف من البلل إنما يفكر كيف يخرج من البحر.