الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

القدس تسقط أهم الأسس التي يقوم عليها مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي

نشر بتاريخ: 08/05/2022 ( آخر تحديث: 08/05/2022 الساعة: 16:33 )

الكاتب: العميد: أحمد عيسى

طورت إسرائيل مفهومها للأمن القومي في بداية خمسينات القرن الماضي تأسيساً على عدة قواعد كان قد خرج بها رئيس الوزراء الأول للدولة دافيد بن غوريون، الذي يتسب له وضع الركائز التي قامت عليها نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، والتي لا زالت قائمة وفاعلة حتى يومنا هذا، حيث كان بن غوريون بعد الإعلان عن قيام الدولة وإعتراف الأمم المتحدة بها، قد خصص جل وقته لتحليل واقع الدولة الإستراتيجي وتحديد التهديدات والمعضلات التي تواجها، ومن ثم وضع ردود مناسبة لهذه المعضلات والتهديدات لضمان بقاء الدولة.

وكان في القلب من هذه القواعد التي خرج بها بن غوريون، القاعدة القائمة على الإفتراض الدائم أن أمن إسرائيل القومي هو أمن الأقلية مقابل الأكثرية (The Minority Vs the Majority)، لا سيما وأن التحليل قد أثبت أن الدولة الناشئة لتوها تعاني من ثلاثة عيوب إستراتيجية، الأول منها أن أعداد العرب الذين أعلنوا أنهم في حالة حرب وعداء مع إسرائيل يفوق كثيراُ عدد مواطني الدولة من اليهود، وثاني هذه العيوب يتلخص في طول حدود الدولة وعدم توفر عدد كافي من الجنود لتأمين هذه الحدود، أما ثالت هذه العيوب فيدور حول فقدان الدولة للعمق الإستراتيجي.

وقد مثلت هذه العيوب كابوس لقادة إسرائيل، إذ أدرك هؤلاء أن إسرائيل لن يكون بمقدورها الصمود طويلاً إذا ما إكتشف العرب هذه العيوب وطوروا خطة بناء عليها، كأن تتمكن الدول العربية المجاورة لفلسطين (مصر والأردن وسوريا ولبنان) من التوحد وتشكيل قوة عسكرية واحدة، ثم مبادرة هذه القوة لتوجيه ضربة منسقة لإسرائيل، ففي هذه الحالة لن يكون بمقدور الأخيرة الصمود لفترة طويلة، لا سيما إذا ما تلقت القوة العربية الواحدة الدعم والإسناد من الدول العربية والإسلامية غير المجاورة لفللسطين، أو أن يتمكن العرب من إستعلال غياب العمق الإستراتيجي وتقسيم إسرائيل إلى نصفين من خلال السيطرة على طريق القدس تل أبيب الذي لا يزيد طوله عن 20 ميل، أو أن يبادر العرب لحرب إستنزاف منظمة بمعدل عملية عسكرية واحدة يومياً.

وعلى ضوء التهديدات الوجودية التي تضمنتها السيناريوهات المشار إليها في الفقرة السابقة، إرتبط المحافظة على وجود إسرائيل بتوفير ثلاثة شروط:

عدم السماح للعرب أبداً في تشكيل قوة عسكرية واحدة مؤثرة.

الحرص على أن تكون إسرائيل دائما هي الطرف الذي يختار زمان ومكان ووتيرة الحرب.

على إسرائيل أن لا تخرج للحرب على الحدود فيما تواجه إنتفاضة فلسطينية داخلية.

وفي سعيها لتحقيق هذه الشروط طورت إسرائيل إستراتيجية تقوم على ركيزتين الأولى عسكرية وتهدف من جهة إلى توفير العمق الإستراتيجي من خلال إحتلال الضفة الغربية، ومن جهة أخرى الى خلق حدود يمكن الدفاع عنها، الأمور التي تحققت بعد حرب العام 1967 وإحتلال كل من الضفة الغربية وشمال سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، أما الركيزة الثانية فهي ديبلوماسية وإستخبارية تهدف الى زعزعة العلاقات العربية العربية وإبقاء الخلافات هي الثابت في هذه العلاقات فيما بينها لمنعها من التوحد أبداً في قوة واحدة.

وكانت هذه الإستراتيجية قد وصلت إلى ذروة نجاحها مع بداية تسعينات القرن الماضي، لا سيما بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي ونشأة نظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي كان له دوره في إنهاء حالة الحرب وتوقيع إتفاقيات سلام مع كل من مصر والآردن والفلسطينيين.

وفيما نجحت إتفاقيات التسوية على المسارين المصري والأردني، إلا أنها لا زالت عالقة على المسار الفلسطيني، ولا يبدو أنه سيبرز في إسرائيل في المدى المنظور قيادة سياسية مستعدة لصنع السلام مع الفلسطينيين والسماح لهم بإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس على جزء من فلسطين الإنتدابية في سياق الحل الذي يجمع عليه العلم برمته ضمن ما يعرف بحل الدولتين، لا سيما وأنها أي إسرائيل، وعلى الرغم من تنكرها للحقوق الفلسطينية التي أجمع عليها العرب في قمة بيروت العام 2002، إلا أنها لا زالت تحقق نجاحات ديبلوماسية كما تجلى في توقيعها إتفاقات أبرهام مع اربع دول عربية في اسيا وأفريقيا.

ويبدو هنا أن إسرائيل قد إرتكبت خطأ إستراتيجياً فادحاً في محاولتها إستغلال حالة التحول الجارية على صعيد النظام الدولي منذ نهاية العقد الأول من القرن الجاري، وحالة الضعف العربي والإسلامي، وحالة الإنقسام غير المبرر التي يعيشها الشعب الفلسطيني، لحسم سيطرتها على القدس خاصة على المسجد الأقصى، إذ أدخلت هذه المحولة إسرائيل في مأزق إستراتيجي لا يبدو أنه قابل للحل، فمن جهة كانت الإعتداءات اليومية على المسجد الأقصى من قبل المتطرفين اليهود الذين يحكمون إسرائيل الآن، هي الدافع والمحرك الأساس في تسريع حالة التحول المتسارعة في المجتمع الفلسطيني والتي يعتبر أحد ملامحها مبادرة أفراد فلسطينيين من كل من الضفة الغربية الصامدة، ومن السبع والمثلت في تنفيذ عمليات أفقدت المواطنين في إسرائيل الشعور بالأمن الشخصي وكشفت في نفس الوقت عن حقيقة أن كل ما تملكه منظومة الأمن الإسرائيلي من ممكنات للقوة لن يكون بمقدورها إحتواء حالة التحول التي يشهدها المجتمع الفلسطيني على طول وعرض فلسطين الإنتدابية، كما كانت محاولة إسرائيل حسم السيطرة على القدس والمسجد الأقصى هب الدافع الأساس للإعلان عن تشكيل محور القدس الذي يتكون من خليط من دول ومنظمات غير دولتية تؤمن جميعها أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، الأمر الذي يسقط الأسس التي قامت عليها نظرية الأمن القومي الإسرائيلي ويضع الشروط الثلاثة المشار إليها سابقاً في مهب الريح، والأهم من ذلك أنه يجعل من الوقت الذي تستثمره الدولة في الحرب والمواجهة أكثر بكثير من الوقت الذي تستثمره في السلام والإستقرار، وهذا من أهم شروط إندثار الدول عبر التاريخ.

*المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي