الثلاثاء: 19/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

أن تكون هناك...

نشر بتاريخ: 19/05/2022 ( آخر تحديث: 19/05/2022 الساعة: 13:54 )

الكاتب: محمد نعيم فرحات

في حدود عمرها كانت شيرين أبو عاقله وزملائها وشعبها، تقيم في لحظة حظ لحياة تقع بين موتين، موت تخطى اللحظة، وموت أخر يخيم في أفقها، هكذا هو الأمر في مسرح فلسطين منذ عقود طويلة بطول الصراع الدائر فيها، حيث احتمال أن يموت المرء مسفوك الدم، هو أمر متوقع بلا خرائط للاحتمالات، والعيش في بلاد شاءت الأقدار أن تكون بلاط السماء في الأرض، يعني أن تكون "مرابطاً" بالمعنى الزمني والروحي في تخوم حياة مسيجة بالمعاناة والموت غزير المعاني والوعد معا، ورغم الابعاد المأسوية للأمر الّا انه ينطوي على فرادة "ما" وعلى امتياز "ما" يعطيان للحياة وللبحث عنها أعلى المعاني، وحدهم المؤمنين هم الذين يستطيعون أن يعطوا لوجودهم هناك المعنى البهي وأن يعبّروا عن قوة الإرادة التي تلاقي التكليف العالي الممتد من السماء إلى الأرض والمتواصل في التاريخ منذ الأزل حتى الأبد.

***

الإقامة وسط الخطر والتعاطي مع احتمالات الموت المجنونة لم تكن وظيفة بالنسبة لشيرين وأبناء شعبها، بل كانت فعل بقاء وثبات في الزمان والمكان، وخياراً جسوراً، ومشاركةً ترقى لمرتبة التكليف لمن يعنيهم الأمر: يقاومون الاحتلال بما تطاله اياديهم، يشهدون على الظلم ويكونوا شهداء له، ويدينون القهر والعبث والتعدي على حقوق الناس وحياتهم. شيرين فعلت ذلك كإنسانة وكبنت للبلاد ووجعها وكمؤمنة ضمن ممكناتها، والمؤمنون لا يسألون بعضهم عن انتماءاتهم، هم يعبّرون عنها ويتوحدون ويلتقون في تخوم الإيمان الفسيحة، أما الذين يسألون بعضهم عن انتماءاتهم هم صنف أخر من الناس، لم يترقوا بعد إلى حيز الإيمان، وفلسطين المكللة بمجد السماء ومجد الزمن، هي الاختبار الأهم والتعبير الأعلى ودرب الصبر الباسل نحو الإيمان الممتد: من هنا حتى هناك حيث الرب العظيم.

***

شيرين، الشاهدة التي صارت شهيدة وكان لموتها كرامة تُشَهِي النفوس العالية بالموت، سرّى حدث استشهادها في أعماق وجدان شعبها وأمتها وما تيسر من عالم، وشاءت لها الأقدار وخياراتها في الحياة أن تكتب بموتها كلامها العالي على ألواح الزمن والوعي ، ولاقت حظاً مستحقاً وهي تصنع لحظتها المجيدة بوجودها هناك: في الزمان الذي سطره القدر والمكان الباسل، وفي بلاد تزدحم بالموت من أجل الحياة، جرى تشييعها محمولة على أكف المؤمنين ووجدانهم : من مخيم جنين حيث فاضت روحها إلى جلالة القدس ومجدها، لقد رسمت شيرين فصلها الخاص في مسيرة فلسطين البهية والمهيبة بثمن الألم نحو انعتاقها وتحررها وتحويل سؤالها، من معاناة إلى شفاء روحي وتاريخي لها وللعالمين.

***

صحيح أن الموت يجري على الأرض لكن قراره وشكله وكراماته ومعناه وصداه وتكريمه لمن يموتون يتقرر هناك: في السماء.

في شكل الموت ومعناه والكيفية التي يتجلى فيها، لا يكفي أن نسأل الأسباب والظروف التي أفضت إليه والتي نراها بالعين، دائما كان وعي الناس يذهب إلى السماء، كي يسأل ويتساءل عن هندستها للمصير الحاسم.

الإجماع الوجداني والعاطفي والإنساني والإيماني الذي تجلى من جديد بمناسبة استشهاد شيرين، امتد من أعماق شعبها فأمتها ووصل صداه وارتداداته لما تيسر من العالم الحي. وأتاحت لنا شيرين فرصة أن نعرف هويتها أكثر من خلال خياراتها وإيمانها وإنسانيتها والتزاماتها التي عبرت عنها بالذخيرة الإنسانية الحية.

***

في الشرق الروحي البهي العميق وتجلياته لا محل للكثير من الأسئلة الأولية، السؤال التاريخي والوجودي الدائم كان في البحث عن موقف الناس مما يجري للمنطقة وشعوبها على أيدي أعدائها وحلفائهم لهم ينتمون لقاع الشرق، حلفاء ولدوا في حيز الشرق كمكان لكنهم لم يكونوا يوما من صلب وجدانه وخياراته وارتباطاته الروحية والانسانية، لقد كانوا بمثابة إثم يتعين التطهر منه.

الشراكة الروحية والتاريخية والوجدانية التي تكلل الشرق العميق وتقوم عليها أركان هويته، والتي رسمت السماء نصوصها الأولى في ألواحها المتتالية، وكتب حامليها ووارثيهم، جيلاً تلو جيل، تعبيراتها على صفحات الزمن والتاريخ والوعي والذاكرة، هي قيمة ضامنة لروح الشرق وبقاءه ووعده لنفسه وللعالم. وهي المصدر الأول لإنتاج كل المقاومات، ضد كل الظالمين والتغلب المشترك على مشقات الحياة، وتحويل الخلاص الروحي والزمني، من دعوة وفكرة إلى مصير قيد التحقق. هي شراكة لا تحتاج إلى تأكيد أو للدفاع عنها من أحد، لأن الدفاع الأعمق عنها يكون بتعزيزها في كل شأن، والمضي نحوها أفاقها، إيمان يحتاج التاريخ له كي يستقيم ويستوي في مداراته اللائقة، على نحو يُريِحُ البشر ويُرضِي السماء عن سعي من استحلفتهم في الأرض وراهنت عليهم.