الكاتب: جمال زقوت
الحلقة الثالثة والأخيرة
ما العمل ؟
من يدقق في الحالة الفلسطينية الراهنة، فإنه بدون كثير من العناء والتمحيص يخلص إلى عمق التناقض واتساع الفجوة بين الحالة الشعبية التي ما زالت تختزن روحاً كفاحية، وحالة متقدمة من الاستعداد للتضحية الفردية والنضال الجماعي، وهناك أكثر من محطة برزت منذ العام 2015 تشير بوضوح متصاعد على ذلك. هذا في وقت أن قوى الانقسام المهيمنة على المشهد تعاني من مأزق حقيقي متفاقم ، يبدو أنه استراتيجي في حالة القيادة الراهنة للمنظمة والسلطة ، كما أن حماس التي كانت تبدو صاعدة، و ربما لم تلوث ذاتها كثيرًا في مسار التسوية الفاشلة، إلا أنها أيضًا تعاني من مأزق تكتيكي خطير يتمثل في فشلها الذريع في تجربة الحكم في القطاع المحاصر وهي لم تعد قادرة على التسويق الشعبي بأنها ضحية، أو وريث فشل السلطة، سيما بعد خمسة عشر عامًا من العجز عن ايجاد حلول وطنية لمعضلات القطاع والقضية الوطنية، بما يتجاوز شنطة العمادي، ومعادلة "أمن مقابل اقتصاد"، بهدف تحييد ترسانتها الصاروخية التي ببساطة لن تتمكن من تغيير الوضع القائم في القطاع إلا نحو المزيد من الكوارث والدمار . رهان حماس الوحيد هو على المزيد من فشل السلطة، واستراتيجيتها الانتظارية لتصدع قدرتها على البقاء، لتتقدم، أي حماس، نحو ملئ فراغ البديل، ولكن من الواضح تماماً أن صفقة البديل الحمساوية لمدّ سلطتها على كانتونات لن تكون دون ثمن قد يفيض على طاقة وقدرة حماس . صحيح أن اسرائيل تراقب وتمحص بتجربة وقدرة وجدارة حماس على ضبط أمن حدودها مع قطاع غزة، وهي تعلم أن ما تسعى إليه حماس هو شرعيتها أولاً وأخيرًا، ولكن اسرائيل التي حاولت تدجين عرفات إلى أن تمرد على أطواقها التي كانت تكبله عندما اتضح له عدم استعداد اسرائيل لتسوية تاريخية حقيقية ، فاسرائيل لن تعيد تجربة طالبان الأفغانية التي نشأت على أنقاض انهيار الدولة بعد الانسحاب السوفييتي، دون الاستفراد بالحركة الربانية و تدفيعها أغلى الأثمان بالحصول على ضمانات وتنازلات عجزت سلطة فتح على تقديمها .
حافة الهاوية وخطر الانهيار
ذلك كله يؤشر بوضوح على مدى تهتك القدرة الذاتية والمأزق العضوى المستحكم لطرفي الانقسام إن استمر بذات العقلية الاقصائية المتبادلة، سيما في ظل تحكم اسرائيل في قواعد هذه المعادلة الداخلية العبثية .
إن الانقاذ الحقيقي الذي يفتح الطريق لاعادة بناء القدرة الذاتية يتمثل جوهرياً وقبل كل شئ في انهاء حالة الانقسام واستعادة الوحدة، فهو بالاضافة إلى أنه يشكل مدخل انقاذ للحالة الوطنية، فهو بالتأكيد يشكل خشبة خلاص لكل من الطرفين المهيمنين على المشهد الانقسامي المتهاوي . إن مدخل الأخذ بهذا الخيار، وبالاضافة للضرورة الوطنية التي تستدعي المواجهة الموحدة، و الاستنهاض الشامل للقدرة الذاتية الفلسطينية، فإنه يستدعي الإقرار مرة وإلى الأبد أن تطورات الحالة الفلسطينية الداخلية تؤكد استحالة ليس فقط قدرة أي طرف منفرداً على مواجهة الغطرسة الاسرائيلية، بل وأيضاً استحالة انفراد أي منهما بالقرار الوطني في ادارة الصراع وادارة الحكم على حد سواء .
مبادرة فياض للوحدة والانقاذ الوطني
لقد سبق لرئيس الوزراء الأسبق سلام فياض أن تقدم في عدة مناسبات بخطوط عريضة لمعادلة عملية لاعادة بناء عناصر القوة الفلسطينية من مدخل التوافق المرحلي على آلية متداخلة ومتدرجة لانهاء الانقسام، تقوم أساساً على ضرورة الانتقال الفوري لآلية موحدة للقرار الوطني في اطار منظمة التحرير من خلال الاطار القيادي الموحد الذي يشمل المطبخ السياسي لمواجهة تحديات المرحلة،تمهيدًا لانضمام عاجل للقوى الغير ممثلة في منظمة التحرير إلى لجنتها التنفيذية، واتخاذ قرار باشرافها على بدء التحضير لمجلس وطني توحيدي " على أساس الديمقراطية التوافقية" يُشَرِّع هذه التوجهات ، وبما يعيد للمنظمة طابعها الائتلافي كجبهة وطنية متحدة لقيادة النضال الوطني على قاعدة الاقرار بالتعددية السياسية والفكرية من ناحية، والاتفاق على أسس برنامج عمل سياسي وكفاحي ينطلق من القاسم المشترك بين جميع مكونات الشعب الفلسطيني لهذه المرحلة، وفي ذات الوقت تواصل قيادة المنظمة بكل مكوناتها الحوار في مختلف القضايا السياسية دون الاضرار بعلاقات منظمة التحرير ومكانتها التمثيلية، ودون اشتراطات مسبقة و كأننا نتحاور على ماذا تقبل اسرائيل أو ترفض في وقت أنها في الواقع ليس في جعبتها سوى رفض الاقرار بالحقوق الوطنية التي أقرتها قواعد القانون والشرعية الدوليين، وهي تواصل العمل لتصفية القضية الوطنية بعناصرها الاساسية " الأرض، القدس، اللاجئين، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ".
أولويات لا تحتمل ترف الانتظار
إن انجاز هذه العملية يحتاج لوقت ليس بالقصير حتى لو توفرت كل النوايا الحسنة، في وقت لا يملك شعبنا ترف الانتظار وهو يعيش أبشع أشكال الزحف الاستيطاني المترافق مع أوسع عملية ضم وتهويد للأرض الفلسطينية في القدس وسائر أرجاء الضفة الغربية، ناهيك عن أثر الحصار والتدمير المتواصل ضد شعبنا في القطاع ، و ما يستدعيه ذلك كله من ضرورة الاتفاق الفوري على تشكيل حكومة وحدة وطنية تعالج كل الملفات الضاغطة على حياة الناس، وفي مقدمتها اطلاق الحريات العامة واعطاء الأولوية لاستحقاقات معركة الصمود الشاملة، وايجاد حلول عملية لمختلف القضايا التي ولدتها مرحلة الانقسام دون استثناء، وبما يمهد لخلق أجواء وفضاءات سياسية للتوجه نحو انتخابات عامة وشاملة برلمانية ورئاسية وللمجلس الوطني يتُفق على موعدها، وتعمل الحكومة على توفير البيئة التي تضمن لهذه الانتخابات ليس فقط الشفافية والنزاهة و الالتزام بنتائجها ، بل وبأن تكون العملية الديمقراطية ركيزة استنهاض وطني لتوسيع المشاركة الشعبية في مواجهة الاحتلال وتحمل المسؤولية في بناء مستقبلها في هذه البلاد على حد سواء.
يبدو أن هذا السيناريو الذي لم يسبق أن رفضه أي من الأطراف ، مع أنها تجاهلته، ربما لانه السناريو الوحيد الذي كان وما زال قابلاً للتطبيق ، وهو الخيار الأكثر منطقية لتجنب استمرار حالة الانهيار أو الصدام الداخلي سواء بين المتنافسين في اطار السلطة، أو بينها وبين حركة حماس وهو الأمر الذي تخطط له اسرائيل منذ سنوات، من خلال سؤالها المسموم: ماذا ومن بعد الرئيس أبو مازن؟! ، وهو كلمة السر التي نخرت الحالة الفلسطينية في ظل حالة الانتظار والعجز والانقسام المزمنة والمدمرة و ما ترافق معها من عملية الفك والتركيب للمؤسسات الفلسطينية وفق الرغبات الاسرائيلية . في وقت أن السؤال الوطني الوحيد الذي علينا أن نشهره هو ماذا على الرئيس أبو مازن من موقعه كرئيس للشعب الفلسطيني أن يفعل لمنع الانهيار واستعادة الأمل للشعب الفلسطيني وثقته بقضيته وبقدرته على مواصلة الكفاح الوطني، و أن الانتقال السلمي والديمقراطي للسلطة في اطار وحدة وطنية راسخة هو الخيار بل القانون الذي تتطلبه مرحلة التحرر الوطني وتداخلها مع موجبات البناء الديمقراطي وصون قدرة شعبنا على الصمود والمقاومة .
استعادة زمام المبادرة
ان استراتيجية استعادة زمام المبادرة من قبل الناس، كما جرى في الانتفاضة الأولي، و كذلك استراتيجية دمجها في العملية الوطنية وتنمية القدرة على الصمود كما حاول فياض خلال فتره توليه لرئاسة الحكومة، واعادة تعريف مضمون المقاومة الشعبية بما يشمل أيضًا توفير كل السبل لتعزيز قدرة الناس على الصمود، و كذلك مفهوم التنمية بما يعني تنمية قدرتها على البقاء و مقاومة كل محاولات اقتلاعها من خلال توفير البني التحتية التي تمكنهم من ذلك وبما يشمل بالاضافة للخدمات الصحية و التعليمية، انشاء البني التحتية من طرق وشبكات طرق زراعية وشبكات مياه و تحديث آبار المياه وتحويل قضية الوجود والحق في استثمار ما سُمى بمناطق ج إلى قضية كفاحية مسنودة بدعم دولي وأممي في مواجهة خطر ضم هذه المناطق والتي شكلت جوهر صفقة ترامب نتانياهو، و هي أيضاً تشكل في الواقع جوهر توجهات رئيس حكومة زعيم المستوطنين نفتالي بينيت . هذان النموذجان في الكفاح الشعبي وإدارة شؤون البلاد والعباد، لم يُعطيا فرصة استكمال أهدافهما، كانا النموذجين اللذين أحدثا بعض الحراك والتحولات ولو المحدودة داخل المجتمع الاسرائيلي، واجباره على النظر للحالة الفلسطينية كندٍ لا يمكن انكاره أو تجاوز حقوقه، بالاضافة لما أحدثه نموذج صمود المقاومة في بيروت، و الذي دفع بمئات الآلاف للخروج تنديدًا بدور شارون وحكومة بيغن في مجزرة صبرا وشاتيلا .
البديل الشعبي والكفاحي
ان ما يجري من حراك تحت رماد الهبات الشعبية، وما بات يعرف بالعمليات الفردية، إنما يشير بوضوح إلى نفاذ صبر الناس على الوضع القائم ومخاطر التصفية الداهمة وبما يشمل الخطر على قدرتها على البقاء سيما في القدس وتخومها والأغوار وباقي الارياف التي تشكل بمجملها مناطق "ج"، و المهددة بخطر التوسع الاستيطاني . ذلك كله وبالاضافة للارادة الشعبية التي يتعالى صوتها ضد الانقسام وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية وعلى الحريات العامة والحقوق المدنية، و تغييب المساءلة البرلمانية والشعبية وما تلحقه من أذى بكل ما تحقق سابقاً من خطوات على طريق ترسيخ الشفافية والحكم الرشيد وما يولده ذلك من فساد غير مسبوق، لعل أخطره الفساد السياسي والتماشي من الناحية الفعلية، ولكل الأغراض العملية مع ما يسمى "بنظرية تقليص الصراع"، والتسهيلات الاقتصادية الشكلية التي تستهدف بشكل أساسي الدفع بحالة تتساوق مع هذه النظرية، بديلا عن الحاجة الماسة لمراجعة المسار السياسي، والبحث عن قواسم مشتركة للوحدة و الاطاحة بالانقسام.
إن هذه الحراكات تشكل الضمانة المحتملة والممكنة لامكانية التغيير الشعبي ومنع الانهيار أو الصدام، وصولا الى بلورة تيار وكتلة شعبية قادرين على فرض شروطهما الوطنية والديمقراطية، و أخذ زمام المبادرة بيدها لالزام كافة الاطراف بالعودة إلى جادة الصواب وللمسار الوطني الديمقراطي والبيت الذي يتسع للجميع في اطار المؤسسة الجامعة ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية. إلا أن هذا الخيار يتطلب توفر سلسة من الشروط الذاتية القادرة على حمل مشروع تجديد الوطنية الجامعة والاصلاح الديمقراطي الذي يصون بشكل جوهري الحقوق المدنية والحريات العامة . ان القدرة على انجاز هذه المهمة التاريخية يتوقف على مدي تقدم ممثلي الرأي العام و الحراكات الشبابية والاجتماعية والشخصيات الوطنية الجادة والفوق فئوية للاخلاص لمثل هذه التوجه والانخراط في عملية ديمقراطية جادة جوهرها منع تسلل الانهيار للنسيج المجتمعي تمهيداً لحالة نهوض وطني . هذا الاختبار الذي نواجهه في هذا المنعطف يفرض على كل الوطنيين الفلسطينيين في كافة اماكن تواجدهم مسؤوليات وتحديات كبرى، و من الاكيد أن جاهزية الناس على المضي قدمًا في هذا الطريق باتت ناضجة، وهي لن تنتظر طويلًا .