الجمعة: 15/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

حول علاقة الكتاب الفلسطينيين بالأدب الروسي بين الثوري والنمطي

نشر بتاريخ: 08/06/2022 ( آخر تحديث: 08/06/2022 الساعة: 16:39 )

الكاتب:

د.حسن عبدالله

‏بداية لا أعتقد أن كاتباً أو أديباً فلسطينياً واحداً لم يتأثر بالمدرسة الواقعية في الأدب بما قرأ في الأدب الروسي وبالمعنى الأوسع الأدب السوفيتي، ‏عندما كان الاتحاد السوفيتي يوظف جزءاً كبيراً من طاقته في الطباعة والنشر لاسيما من خلال دار التقدم، ليترجمَ وينشرَ باللغة العربية آلاف الكتب التي كانت تُشحن مجاناً أو بتكلفة رمزية.

أما درجات التأثير ومستوياته، فهي متفاوته، وكانت تحكمها مواقف ايدولوجية وطبقية وطبيعة الانشداد للاتجاه التقدمي الأممي بشكل عام.

والحقيقة أن دوافع اهتمام الكتاب والمبدعين الفلسطينين بالأدب السوفيتي كثيرة، بيد أنني أسجل هنا أهمها:

أولاً العلاقة بين الثقافتين الروسية والفلسطينية ضاربة الجذور في القدم والشواهد والمعطيات كثيرة.

ثانياً بعد ‏تأسيس الاتحاد السوفيتي تعامل الفلسطينيون مع هذه الدوله على اعتبار أنها دولة صديقة، فيما أخذت الأحزاب الشيوعية والحركات التقدمية في البلدان العربية تروج للافكار الاشتراكية، والأمر ذاته حصل في فلسطين، ‏حيث شكلت الأفكار الثورية التي جسدتها ‏ثورة أكتوبر في العام 1917 مصدر إلهام لشرائح واسعة في المجتمع الفلسطيني، المثقفة من ناحية، و الشرائح الفقيرة والمهمشة من ناحية أخرى، وبالتالي من الطبيعي أن يتم السعي للتعرف اكثر على هذه الأفكار من خلال الأدب المترجم إلى اللغة العربية.

ثالثاً ‏تناول الأدب السوفيتي مراحل ثورية ‏متعلقة بثورة أكتوبر الاشتراكية، والتحديات التي واجهتها، ونجاحاتها و إنجازاتها، ‏حيث تقاطع ذلك مع الأدب الفلسطيني ‏المقاوم الذي اتسم بثوريته وتوقه ‏لإحداث تغيير تقدمي في المجتمع الفلسطيني على طريق التحرر والاستقلال.

رابعاً ‏هناك عدد لا بأس به من الأكاديميين الذين درسوا في الاتحاد السوفيتي قد قرأوا ‏الأدب الروسي بلغته ‏الأم بعد أن تعلموها، وكان أثر ذلك عليهم كبيراً، فالقراءة ‏باللغة الأصلية ‏تضع القارئ في الأجواء الحقيقية للغة ودلالاتها وتشبيهاتها وإيحاءاتها، ‏ومنهم من كان على صلة بالأدب أو البحث، وأذكر هنا على سبيل المثال للحصر وفي ‏عجالة بعض الأسماء مثل عفيف سالم ووداد البرغوثي وخليل أبوعرفة وإياد البرغوثي وسمر شنار وريم البنا….

يقول رسام الكاريكاتير والكاتب القصيص خليل أبو عرفة: "في الاتحاد السوفيتي تأثرنا بالفن والأدب الذي نبع وتطور في مرحلة ما قبل الثورة الاشتراكية وكذلك الأدب الذي تبلور بعد انتصار الثورة (1)

خامساً هناك عدد كبير من الكتاب والأدباء بدأوا ‏نشاطهم السياسي والثقافي معجبين بالاتحاد السوفيتي منحازين له، ‏بعد أن اختاروا أحزاباً شيوعية أو حركات اشتراكية للعمل من خلالها، وبالتالي فإن الكتاب ‏والأدباء السوفييت قد مثلوا لهم نماذج سعوا للاقتداء بها، أو ‏التعرف على ما أنتجت وأبدعت، ومن هؤلاء ‏كتاب وأدباء كبار مثل معين بسيسو وأميل حبيبي وسميح القاسم ومحمود درويش وسميح القاسم ومحمود شقير ‏وعز الدين مناصرة ورشاد أبو شاور وسحر خليفة ونبيه القاسم وليانا بدر وأسعد الأسعد وزياد خداش وتوفيق زياد ومريد البرغوثي وإبراهيم نصرالله وأسامة العيسه ومحمد شريم وجهاد صالح وإبراهيم جوهر ومعين جبر وغسان زقطان وسميح محسن وصافي صافي وغيرهم…..

سادساً شكل الأدب السوفيتي في تجربة الاعتقال مادة للتعبئة والصمود، وتأثر عدد من الكتاب بتلك النماذج المترجمة التي تلقفوها في الاعتقال، حيث تمثلوا بها على الأقل في محاولاتهم الكتابية الأولى، وأذكر من هؤلاء الكتاب للتدليل:

سامي الكيلاني ومحمد أبو النصر ومحمود الغرباوي وصالح أبو لبن ومحمد عليان ومحمد مناصرة وعائشة عودة وأحمد أبو غوش وحسن عبد الله وأبو سليم جادالله وخالد الزبده وحاتم شنار وعيسى قراقع وخليل توما ومحمد عبد السلام ومحمد اللحام ومحمد الياس ومنصور ثابت وعصمت منصور ووسام الرفيدي وعلي جرادات واسماعيل الدمج وعلي جده ومحمود جده وناصر اللحام وخالد أبو عجمية وحبرائيل الشوملي ومؤيد عبد الصمد وحبيب هنا.... الخ (2)

كتب مترجمة عن الروسية ذات تأثير

ترجم عن الروسية إلى العربية مئات الكتب، في الأدب والسياسة والفلسفة والفكر والاقتصاد.

وقد قرأ الفلسطينيون والعرب المادتين التاريخية والجدلية بعد أن ترجمتا عن الروسية، وكذلك الحال بالنسبة إلى كتب الاقتصاد والسياسة، وكتب لينين وانجلز ورأس المال لماركس، اهتم بهذه الكتب ذوو العلاقة بالفكر من الاتجاه اليساري أو من قبل الباحثين الأكاديميين في إطار الدراسات المقارنة، بيد أن الاهتمام بالأعمال الروائية كان أوسع وأشمل، سواء تلك التي سبقت زمنياً الثورة أو التي جاءت بعدها.

ومن الأعمال الروائية المترجمة التي تركت أثراً في تجارب الأدباء الفلسطينين، وربما الجمهور الأوسع:

الجريمة والعِقاب - فيودور دوستويفسكي، الحرب والسلم – ليو تولستوي، الدون الهادئ – ميخائيل شولوخوف، الأخوة كارامازوف – فيودور دوستويفسكي، الآباء والبنون – ايفان تورغينيف، الدكتور زيفاغو - بوريس باسترناك، الأم – مكسيم غوركي، كيف سقينا الفولاذ – نيكولاي أوستروفسكي، وداعاً ياغولساري – جنكيز ايتماتوف، داغستان بلدي – رسول حمزتوف، وقصيدة تربوية بأجزائها الثلاثة لماكرنكو.

وفي رأيي أن روايتي "الأم" و"كيف سقينا الفولاذ" واستناداً إلى خبرتي الشخصية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، أكان ذلك في الاعتقال أو خارجه، قد تركتا الأثر الأكبر، وحظيتا بقراءة واهتمام وتحليل على نطاق واسع نظراً لأنهما:

تندرجان في إطار الأدب الواقعي الاشتراكي الذي ينطلق من الواقع، ويسلط الضوْء على الظلم والقهر، والصراع، والصمود، ورؤية الفردي في إطار الصورة الكلية، والتركيز على البعد الجماعي للفعل، وانتصار الإيجابي في المحصلة النهائية على انقاض السلبي، إلى جانب مراعاة الحدث والصورة والتسلسل والحوار والتصعيد الدرامي، الأمر الذي ركِّز عليه الأدب الفلسطيني المقاوم في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حينما انشد معظم الأدباء للثورة بل وانخرطوا فيها، وكانوا أقلامها، تماهياً مع دور المثقف العضوي على رأي المفكر الإيطالي غرامشي الذي هو نقيض المثقف التقليدي، لاسيما وأن المثقف العضوي ينخرط إنخراطاً كاملاً في العمل والإنتاج الثقافي والفكري من أجل التغيير(3)

الواقعية الاشتراكية بين الثوري والنمطي

تخرج من مدرسة الواقعية الاشتراكية كبار الكتاب الذين اهتوا بقضايا الشعب وفق منظور فكري تقدمي، وأعطوا مساحة كبيرة في نتاجاتهم للإنسان معاناة وصموداً وطموحاً، وصولاً إلى تحقيق أهدافه بالانتقال من الظلم إلى العدالة حسب رؤية هذه المدرسة، بيد أن التطبيق الاشتراكي في الدول التي سارت على هذا النهج اعتراه إخلالات وإلا لما تفككت وانهارت التجربة.

لقد حملت هذه المدرسة بعداً مناهضاً للرأسمالية على اعتبار انها تظلم وتطحن الإنسان، وانتقدت المظاهر والسلوك التقليدية اجتماعياً واقتصادياً وتربوياً، ودعت إلى استبدالها بالجديد الثوري، (4) بيد أن وتيرتها النقدية لأداء الأحزاب والحركات التي أخذت على عاتقها تطبيق الاشتراكية كان محكوماً بعوامل وتوازنات، وربما باعتبارات عدم تعريض التجربة للنقد، بما يقدم خدمة لأعدائها، علماً أن غياب النقد المنهجي في الأدب يحسب ضمن السلبيات في هذه الحاله.

المدرسة الواقعية الاشتراكية كانت إنسانية بامتياز، غنية بالوصف والمعلومات، عميقة في رصد التفاعلات النفسية الإنسانية، لكنها مع مرور الزمن واستمرار اعتبارات تجنب النقد الذاتي على مستوى الأدب لأداء الأحزاب والحكومات خشية أن تستخدمه الرأسمالية مادة في حملاتها ضد التجربة الاشتراكية، قد أوقع هذا الأدب في فخ النمطية.

يحتاج الأدب إلى انفتاح واسع على الثقافات الأخرى، وتتطلب رسالته أن يحمل روحاً نقدية جريئة، ويتطلب أيضاً التجريب على المستوى الفني وكسر القوالب لا تقديسها.

الواقعية الاشتراكية مدرسة ضرورية في الأدب ولم ينته دورها، وربما يتعاظم مع التحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر، لكنها في رأيي تحتاج إلى تجديد وتوسيع وتنويع على مستوى الموضوعات والأدوات النقدية والتجريب ومواكبة تحديات الصورة البصرية بسرعتها وإبهارها التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة، حتى يكون الأدب الواقعي قادراً على الاستمرار في الإنتاج ضمن رسالته الموضوعية والتاريخية.

لقد قدم الأدب السوفيتي للبشرية رصداً لأحداث جسام تتعلق بالبلاد السوفيتية والعالم، ومن يريد أن يطلع على معطيات ثورة اكتوبر الاشتراكية يجد الأدب الروسي مرجعاً مهماً، ومن يريد أن يُبحر في معطيات الحرب العالمية الثانية والصمود أمام الوحش النازي، يجد في الأدب الروسي خير مرجع، لاسيما وأن الأدباء والصحفيين السوفييت واكبوا الأحداث ميدانياً وكتبوا وهم في ساحات الاشتباك. لقد علمنا وفهمنا عن ثورة اكتوبر والحرب العالمية الثانية من الأدب الروسي أكثر مما عملنا وفهمنا من كتب التاريخ.

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي

كانت طروحات غورباتشوف التي استهل فيها رئاسته مدخلاً لافشال التجربة الاشتراكية وتفكيكها، منفتحاً على الغرب بخطوات سريعة، ليتحول العالم الرأسمالي إلى الهدف المبتغى، فأصيبت التجربة في مقتل، وأصبحت روسيا تعيش فوضى لسنوات ضاعت البوصلة فيها قبل أن تستعيد توازنها وتؤسس لتجربة جديدة، رأينا مؤخراً اصطفافاً غربياً ضدها على خلفية الحرب مع أوكرانيا.

وكان من النتائج السلبية لتفكيك الاتحاد السوفيتي:

أولاً. الانكفاء الذاتي.

ثانياً. صرف الجهد على معالجة المعضلات الاقتصادية والإدارية والتحديات السياسية.

ثالثاً. كان لتفكك الاتحاد السوفيتي انعكاسات سلبية على الثقافة والإبداع، ومع انهيار التجربة الاشتراكية غاب الأدب الاشتراكي وتراجع إلى أبعد الحدود الاهتمام بالتفاعل الثقافي مع الشعوب وحركات التحرر العالمية، وانتهت تجربة دار التقدم، وأغلقت أبواب الترجمة إلى اللغة العربية.(5)

قال الأديب والمترجم أبو بكر يوسف للجزيرة نت: "إن انهيار الدولة السوفيتية أحدث شرخاً في البنية النفسية الروسية، وفيما بعد اتسمت الحقبة السوفيتية بالميول والاستجابة لغرائز القراء النفسية، كالولع بالقراءات البوليسية". وقال الشاعر والأديب أيمن أبو الشعر: "إن تراجع الأدب الروسي يعود إلى ظروف متداخلة موضوعية وذاتية من أهمها التوجه نحو الخط الغربي في فترة الرئيس السابق يلتسن، حيث ظنَّ بعض الأدباء الروس أن الهجوم على الماضي سيحولهم إلى نجوم في الغرب، مشيراً إلى أن توقف دار التقدم شكَّل كارثة حقيقية للتواصل مع العالم الخارجي".(6)

ما ذكره الشاعر أبو شعر هو صحيح لأن العالم العربي قد عرف الاتحاد السوفيتي ومآثر الثورة عن طريق الأدب السوفيتي الذي واكبها في كل المجالات من خلال ما نشرته دار التقدم، وغياب الأدب يعني فقدان التواصل أحد العناصر المهمة.

الخلاصة:

تأثُر الكتاب الفلسطينيين بالأدب الروسي، وانحيازهم للأدب الواقعي الاشتراكي، هو خلاصةُ احساسِهم بالظلم، وبعدالة قضيتهم، وخصوصاً أن معظمهم قد كانوا كتاباً ومثقفين عضويين مشتبكين، حيث استجاب الأدب الواقعي لخصوصية أوضاعهم ومهماتهم، وجاء منسجماً مع رسالتهم، فقرأوا وثقفوا أنفسهم بنتاجات هذه المدرسة بل إن كثيراً منهم عبر عن حبه للثقافة السوفيتية والتجربة الاشتراكية بشكل عام، من خلال تفاعلهم المباشر كنتيجة للإقامة مدة قصيرة أو طويلة في الاتحاد السوفيتي، ليُترجم ما كتب ونشر بالعربية إلى اللغة الروسية ويتم إصداره في موسكو، كحال كتاب الشاعر توفيق زياد "نصراوي في الساحة الحمراء"، الذي عبر فيه عن اعجابه وانشداده للتجربة السوفيتيه(7)، وقد أنتج الشاعر معين بسيسو كتاباً بعنوان " الاتحاد السوفييتي لي"، متفاعلاً مع هذه التجربة، مبدياً إعجابه بها، مبيناً أن هذه البلاد هي وطن التقدميين كافة، لذلك اعتبر أن البلاد السوفيتييه بلاده (8)، ونحن نتحدث عن تأثير كبير تم التعبير عنه شعراً ونثراً لتصبح الواقعية مدرسة النسبة الأكبر من الأدباء والكتاب الفلسطينيين في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ثم لتبدأ بعد ذلك رحلة التجربة التي قادها محمود درويش ليكون في المرحلة الأخيرة من حياته منحازاً للتجريب والرمزية، متعمقاً في الفلسفة والأسئلة الوجودية بعد أن ملأ الدنيا شعراً وطنياً كعاشق من فلسطين استنطق إنسانها وشجرها وحجرها وسجل أنه عربي في كل زاوية وشارع وزقاق.

الهوامش:

عبد الله حسن، خمسون تجربة ثقافية وابداعية فلسطينية (خليل أبو عرفة فنان كاريكاتير وكاتب)، ص317، مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس:2018.

في الحلقات التلفزية التي أعددتها وقدمتها في برنامج عاشق من فلسطين الذي انتجته "فضائية معاً" في العامين 2016 و 2017 أكد عدد من الضيوف الكتاب أنهم قرأوا ما توافر لهم من أدب سوفيتي مترجم، حيث شكل ذلك مصدر إغناء ثقافي وفني لهم ومنهم:- (صالح أبو لبن وعائشة عودة وخليل أبو عرفة وأحمد قطامش وعيسى قراقع وناصر اللحام وحافظ أبوعباية).

انطونيو غرامشي، ارتبط مفهوم "المثقف العضوي" بالمفكر الايطالي الشهير انطونيو غرامشي (1891 -1937).

الواقعية الاشتراكية في الادب و الفن https://2u.pw/1FQsU.

تأسست دار التقدم في العام 1931 وأخذت على عاتقها ترجمة الكتب الفكرية والأعمال الأدبية إلى اللغة العربية، وقد عرف العرب الأدب الروسي من خلالها.

تراجع أدب الروس بعد الحقبة السوفياتية - الجزيرة نت https://2u.pw/YgQme.

زياد توفيق، نصراوي في الساحة الحمراء، مطبعة النهضة، الناصرة:1972.

بسيسو معين، الاتحاد السوفيتي لي، دار الفارابي، بيروت:2014.