الكاتب:
فراس ياغي
يقرأ بعض النخب أصحاب الفكر الديني ومن مُختلف الديانات التي بداخلها مذاهب وطوائف التاريخ من زاوية واحدة أساسها ما ورد في كتاب "التوراة" والذي تحدث بإستفاضة عن "مملكة إسرائيل" الموحدة في عهدي الملكان "داود" و "سليمان"، والتي إنقسمت لاحقا بما يُعرف بالتوراة بمملكتي "السامرة" و "يهودا"، بإعتبار ذلك حقائق تاريخية دامغة، على الرغم من أن الكثير من المُحدثين الأثاريين أثبتوا عمليا عدم وجود هذا التاريخ على أرض الواقع عمليا في "فلسطين"، بل هي قُصص أخيولية زائفة حَوّرها من بدأ في كِتابة "التوراة" في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد والتي إستمرت زهاء الثلاثمائة وخمسين عاما، بل تم إضافة العديد من الأسفار لكتاب "التوراة" في القرن الأول ميلادي.
الحقيقة الوحيدة أنه في العصر "السلوقي" وفي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد حدثت ثورة في "أورشليم" من قبل اليهود المحافظين على الحامية السلوقية وسيطر "المكابين" نتيجتها على "اليهوذية" ولاحقا أصبحت "اليهودية" بما فيها مدينة "أورشليم"، وفرضوا ما يُعرف ب "دولة المكابيين- الحشمونيين" والتي إستمرت زهاء أل "80" سنة (142-63 قبل الميلاد) حتى دخلها القائد الروماني "بومبي" وأنهى الدولة "المكابية" وأعاد المقاطعة "اليهودية" لواقعها الجغرافي الصغير بعد أن جردّها من كافة المناطق التي سيطرت عليها سابقا، وفي عام "135م" قام الإمبراطور الروماني "هادريان" بتدمير مدينة "أورشليم" تدمير كامل كنتيجة لثورة اليهودي "سمعان باركوخيا"، وطرد اليهود منها بعد أن قام بمجازر طالت كلّ السكان آنذاك، وهذا أصبح يُعرف بمسمى "الديسبورا" أي قرار طرد اليهود، الإمبراطور "هادريان" بنى مكان "أورشليم" ما عرف بمدينة "إيليا كابيتولنيا" التي تسلم مفاتيحا الخليفة "عمر بن الخطاب" بعد عدة قرون، إذاً هنا نتحدث عن جزء من فلسطين كانت الدولة "المكابية" تحكمه بقوة السلاح والتي أيضا فرضت عملية "تهويد" قسرية على السكان ومن رفض أل "تهويد" تم قتله، أي أن دولة "الحشمؤانيين" لم تشمل كل أرض فلسطين التاريخية لحظة تأسيسها، بل خلال فترتها التي إستمرت ثمانين عاماً توسعت لتشمل مناطق الجليل والساحل والمناطق المسماه في "التوراة" ب "الفلستية" وشرق نهر الأردن "عمون" و "مؤاب" وصولا إلى "آدوم". " بتصرف عن كتاب د. فراس السواح، آرام دمشق وإسرائيل".
النبوءات المتعددة والتي إستندت لفكر أصله "توراتي" أخذ أثواب جديدة منطلقة من التاريخ ومن روايات لأنبياء "توراتيين" هم في أغلبهم كانوا مرتبطين إما بالإمبراطورية "الفارسية" أو الإمبراطورية "الرومانية" وفقا لطبيعة موازين القوى آنذاك، أصبحت وكأنها غيبيات مؤكدة الحصول، وفرضت نفسها بقوة على النخب السياسية المتأثرة بجذورها الدينية أو المتشربة لحكاوى القصص الخيالية، فهذا مثلا "بوش" الإبن يدمر "العراق" لأن "الرب" أرسله ليضرب "ياجوج ومأجوج" على ابواب "بابل"، وهذا الغرب الأوربي وإمتداداته الإستيطانية في "أمريكا وكندا وإستراليا" يبحثون عن أصولهم التاريخية في "العهد القديم" للكتاب المُقدّس، أي في اسفار "التوراة" التي ثبت لكل الباحثين أن لا علاقة لها بالتاريخ، بل هي إسقاطات مُزورة أيديولوجية لفكر ديني تم كتابته في القرون الأولى لما قبل الميلاد فيما سمي ما بعد السبي "البابلي" والذي ينفيه أيضا بعض "المؤرخين"، حتى "قورش" الفارسي الذي اسمته "التوراة" ب "مسيح الرب" كان هدفه السيطرة على الأراضي الواسعة للإمبراطورية الفارسية عبر مفهوم اللا مركزية في الحكم وعبر التزاوج بين الإله الواحد "أهورامزدا" الإله الزرادشتي وبين مجمل الألهة المحلية للشعوب المختلفة، فاصبح إله القبيلة "يهوه" هو نفسه "أهورامزدا".
إن الإسقاطات التاريخية الكاذبة والمزورة على حاضر الأمة ومستقبلها هي تعبير عن أوهام البعض الذي يحاول أن يسلب عقول الناس نحو مفهوم "الغيبيات"، في حين يكون "الغَيّب" لصاحب "الغَيّب" الذي لا يعرفه إلاّ "هو"، وهذا أل "هو" جلّ وعَلى، لم يُكلّف أحد غير "الأنبياء والرسل" لنقل رسالته لخَلْقه، رسالته في الإيمان بالوحدانية الإلهية والقيمية الإنسانية ووفقا لمفهوم الصراع الدائم بين الضِدّين "الخير" و "الشر"، في حين إستخدام المفهوم "الغيبي" في الصراعات السياسية تنفي الرسالة السماوية التي تنادي بالمؤآخاة والسلام والمحبة والتعارف وحسن الجوار....الخ، لكن في نفس الوقت، ترفض هذه الرسالة الإلهية الإعتداء والعنصرية والإستكبار والإستعمار والشمولية في التفكير ورفض الآخر وتسمح بالتعددية الدينية وغير الدينية، ويبدو أنه وعبر قرون من الزمن إستطاع "الديميرج" أو "الشيطان" أو "إبليس" أو "عزازيل" أو "لوسيفر"، أن يدخل لأدبيات دينية كثيرة إما عبر عملية تزوير تمت لبعض ما ورد في بعض الكتب السماوية، أو عِبر عملية التفسير التي تتم للبعض الآخر، وبحيث أصبح تركيز الأتباع الذين شكلوا مؤسسات دينية "كهنوتية" وبغض النظر عن مسمياتها على ما جاء فيه "الديميرج" وليس على الأصل المقصود من هذه الرسائل السماوية.
الإمام علي بن ابي طالب كرّم الله وجهه، كان المُعبر الحقيقي عما جاء في كافة الرسائل السماوية حين قال: " الناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلق"، وهي كذلك وما غيرها ليس سوى صراع سياسي تقوم النُخَب في إستدعاء الدين والغيبيات لحشد العامة لمعركتها من أجل السيطرة والتحكم بموارد الدول الطبيعية وتحويل سكانها ومجتمعاتها إلى سوق إستهلاكي لصالح إقتصاديات هذه النخب، وما يحدث في فلسطين التاريخية ليس بعيداً عن ذلك، حيث يتم إستدعاء الغيبية الدينية لإعطاء المبرر للصهيونية المتآمرة مع الغرب "الإمبريالي" لجلب "اليهود" وتحويلهم من مفهوم ديني إلى مفهوم "قومي" للسيطرة على الأرض الفلسطينية خدمة لأهداف الإمبريالية الغربية في السيطرة على منابع الطاقة وفي منع توحد العرب كدولة واحدة قادرة لو توحدّت لأن تُصبح دولة عظمى لها كلمتها على مستوى العالم، لذلك هناك إرتباط عضوي لا ينفصم بين "الصهيونية" الإستعمارية وبين الغرب "الإمبريالي" وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وهنا المعادلة أصبحت واضحة، لذلك نرى أنه على الرغم مما تقوم به دولة الإحتلال في فلسطين، يبقى رد الفعل الغربي لا يتجاوز أكثر من إستنكار أو حتى مطالبات كلامية، في حين في مسألة "اوكرانيا" يقوم الغرب بتقديم كل الدعم العسكري والمالي ويفرض عقوبات على "روسيا".
إن الصراع من إجل إنهاء الإحتلال الصهيوني، هو صراع إرادات وصراع حضاري وعلمي وثقافي وإقتصادي وعسكري، وسيأخذ مداه حتى الوصول إلى صيغة حل ممكن وواقعي ويكون تعبيراً إما عن إرادة دولية جامعة وإستعداد داخلي كما حدث لِ "جنوب أفريقيا" العنصرية، أو تغيير موازين القوى بما يسمح بأن تكون هناك دولة واحدة لمواطنيها مع إعطاء حق العودة وفق قرار "194" الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما نبوءات هذا وذاك فهي ليست سوى أوهام خاصة إذا ما تم تحديدها بتاريخ أو سنة، في حين كلمة "وأعدّوا.." هي التعبير الحقيقي لمعنى الصراع القائم والمعنى الممكن للوصول لحلول ومهما كانت طبيعتها، وبين وهم النبوءة وواقعية وأعدوا مسافة الأضداد، لأن النبوءة "غيبية" وهي للغيب وحده، في حين "وأعدوا" هي المصطلح الإنساني والقادر الواقعي الرافض للتخيلات والأوهام.