الكاتب:
الدكتور احمد رفيق عوض
رئيس المركز الفلسطيني للدراسات المستقبلية في جامعه القدس
يدعي المؤرخ والباحث الاسرائيلي إيال زيسر في مقال نشره في صحيفة اسرائيل اليوم بتاريخ 12-6-2013، ان الشعب الفلسطيني ظهر بعد ان احتلت الحركة الصهيونية ارضه بالكامل وبعد ان وقعت اسرائيل اتفاقيه اوسلو وعلى أثر ذلك ظهر الشعب الفلسطيني وتم الاعتراف بمنظمه التحرير الفلسطينية ممثلا للشعب الفلسطيني. هكذا يكتب بكل ثبات وهدوء ووقاحة منقطعة النظير.
هذا الرجل، اقصد ايال، في عمري تماما، هو من مواليد 1960 وهو استاذ التاريخ في جامعه تل ابيب وباحث في مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الاوسط وافريقيا، وقد انخرط في احدى مراحل حياته في سلاح المخابرات الإسرائيلية وتخصص في اللغة العربية والادب العربي، وقد أصدر عددا من الكتب تتعلق بالأوضاع في سوريا ترجم بعضها الى اللغة العربية، وللرجل حضور اعلامي في وسائل الاعلام الإسرائيلية المختلفة.
ويعني هذا ان الرجل قرأ وبحث وقارن ومن ثم استنتج هذا الاستنتاج المضحك، وكأنه يقول ان علينا ان نشكر الحركة الصهيونية على انها انشأت الشعب الفلسطيني، ولملمت شتاته، واعطته اسما وعينت له ممثلا، وانه كان قبلها غير معرف ولا محدد، وللحقيقة -وحتى لا نظلم الرجل وحده فقط- فإن هناك من الباحثين الاسرائيليين من يعتقد ذلك أيضا، منهم ميرون بنفنستي أيضا وقد تسربت هذه الأكذوبة لبعض الباحثين عندنا أيضا. هذه الأكذوبة تقوم اساسا على فكر عنصري صرف يصدر عن عقليه استعماريه ترى في "المحليين" انهم اقل قدرة على بلوره الهوية الجمعية كما طرحتها الفلسفة الغربية لنشوء الهويات وتجسد القوميات، عقلية استعمارية تعتقد ان التاريخ له مسار واحد ونتيجة واحدة، هذه العقلية تعتقد ان "القومية" هي دم وتراب فقط، وهو مفهوم يؤدي في النهاية الى التهلكة بالضرورة. هذه العقلية الاستعمارية الاستعلائية تعتقد ان الهوية الجمعية يجب ان تتجسد بنظام سياسي وبقطعة ارض وذاكرة مشتركة بشكل او باخر، وهو المفهوم الغربي لفكره الدولة القومية التي ولدت بعد حروب داخليه داميه في قاره أوروبا، انتهت بتوقيع اتفاقيه (وستفاليا) في القرن السابع عشر ولكن التاريخ لدينا مختلف، نحن لم نبلور مفهوم القومية على اساس الحرب والعنصرية والتعصب، ولم نطور الهوية الجمعية على اساس الدم والتراب فقط. كان لدينا مفهوم اوسع وأرحب وأكثر انسانيه وتعاطفا وتراحما سمح لليهود ان يعيشوا بين ظهرانينا دون ان يمسهم أحد او يظلمهم في معظم الأحيان، وأكثر من ذلك. فقد تسنموا اعلى المناصب في بلاد عربيه واسلاميه كثيره. وحتى هذه اللحظة، ما زال التأثير الثقافي والفني وحتى المالي ظاهرا ومؤثرا في اماكن كثيره في العالم العربي. التاريخ الاسلامي -الذي تدعي انك خبير فيه- قدم مفهوم الملة الكبير والواسع الذي يتسع لكل الجماعات والقوميات الصغيرة والاثنيات المختلفة، وبدون تفاصيل، فإن هذا المفهوم يشبه الى حد كبير مفهوم المواطنة الحديث الذي يكفل لكل فرد حرية وملكية وخصوصية كافية وعملية، ويستطيع ايال وغيره ان يقرأ عن اليهود ونشاطهم الكبير في القاهرة والإسكندرية، وفي فاس ومكناس و طنجة ومراكش وفي بغداد والبصرة وفي صنعاء وفي دمشق وحلب وفي القدس وطبريا، هؤلاء لم يتم التعامل معهم من خلال غيتو او قوانين خاصة او عقاب جماعي او توجس مجتمعي او عزل او انعزال كما حدث في اماكن كثيرة من العالم.
ان الحركة الصهيونية باعتبارها احدى الادوات الكبرى التي استغلتها الحركة الاستعمارية الأوروبية المصبوغة بأحلام دينيه اشبه بالهوس هي التي انتزعت هؤلاء الناس، الذين كانوا يعملون في الكتابة او الموسيقى او الذهب او التجارة وغررت بهم ولوحت لهم بهوية قسرية او قومية ما تزال تعاني الالتباس وفقدان التعريف والقت بهم في اتون صراع لا يعرف الا الله نهايته.
حضارتنا التي -تدعي انك خبير بها- لم تتهم اليهود بالاحتكار او تدمير الاقتصاد او تخريب الاخلاق او نشر الرذيلة كما فعلت بعض الاطراف الأوروبية، وحضارتنا لم تحرق اليهود ولم تجردهم من اموالهم ولم تشيطنهم او تكتب عنهم كما في بعض جهات أوروبا، وبالتأكيد فإن علاقة اليهود بحضارة العرب والمسلمين لم تكن ملتبسة او معقده كما تطورت في أوروبا، بالعكس من ذلك، هناك تقاطعات ثقافية ودينية، كثيرة بين اليهودية والإسلام، خصوصا ان الاسلام يعتبر انبياء بني اسرائيل هم انبياء مكرمون لدى المسلمين، وانت بالتأكيد تعرف ان القران الكريم يحتفي ويمجد انبياء بني اسرائيل تمجيدا عاليا ونحن مجبرون على ان نصلي ونسلم على سيدنا موسى وداود وسليمان كلما مر ذكرهم في الكلام او الكتابة، ولكن هذا طبعا لا يقال عندكم او في الاعلام الذي تسيطرون عليه حتى تظل فزاعة معاداة السامية تلتصق بنا وبغيرنا.
المهم، بعيدا عن كل ذلك، ماذا عن الشعب الفلسطيني الذي لم يظهر الا بعد ان منحته الحركة الصهيونية ومن بعدها اسرائيل هذا الامتياز او التميز. هنا، حقا، لا يسعني سوى ان ادهش بقدرة ايال زيسر على القفز على الحقائق التاريخية التي يدعي انه خبير فيها، فأرض فلسطين لم تخل ابدا من العمران طيلة عشرة الاف سنة، وظهرت بها المدن ومرت بها الحضارات و نشأت فيها الحبكات الثقافية الكبرى ورسالات السماء العظمى باعتبار هذه الارض ارض خاصه واستثنائية، وانها لم تتوقف ابدا عن انتاج الفن والفكر والعمران ولم تتوقف ابدا عن كونها ايضا تتميز بحركية عالية للتاريخ، والشعب الفلسطيني كان موجودا قبل الحركة الصهيونية، له مدنه وقراه وغناءه ومدارسه وطعامه وشرابه، ولكنه لم يخضع للمتوالية الهندسية للفكرة القومية كما تتخيلها او تطلبها او تريدها يا سيد ايال زيسر، بالنسبة لمواطني هذه المنطقة وعلى مدى قرون فقد اعتبروا انفسهم أنهم متساوون ولهم حق التجوال والملكية والمشاركة السياسية في مساحة مذهلة تمتد من سواحل بحر العرب الى سواحل البحر الاسود ومن مياه الخليج العربي الى مياه الأطلسي، فكرة القومية كما بلورتها حروب اوروبا لم تخطر لهؤلاء على بال، وهكذا كان شعب فلسطين الذي استيقظ على اثار تقسيم استعماري امبريالي تحت اسم سايكس بيكو الذي هدف ضمن امور اخرى الي خلق كيانات هزيلة بديلة تملأ الفراغ الكبير الذي سينتج عن اقتسام امبراطورية مترامية الأطراف.
ان فرض فكرة القومية -بمفهومها الغربي- كانت كارثة على كل القارات بما فيها قارة أوروبا، ولهذا على الحركة الصهيونية ان لا تفرح كثيرا ان اخترعت الشعب اليهودي بهذه الطريقة التي يعتبرها حتى يهود متدينون كثر انها فعل من افعال الكفر.
ولكن وللدقة التاريخية، فان الشعب الفلسطيني ومنذ سنه 1921 وهو يعبر عن حقه في الوجود والحياه والأرض، ليس من خلال الكفاح على الأرض فقط ولكن من خلال الانتاج الروحي والفكري والعمراني نتيجة التفاعل الحي مع المحيط والعالم سواء بسواء، منذ الاحتلال الانجليزي لبلادنا، ذلك الاحتلال الذي وضع كل امكانياته لإنجاح المشروع الصهيوني، فان الشعب الفلسطيني لم يكن محتاجا لاحد حتى يتعرف على نفسه او يعرف نفسه للاخرين، لقد صاغ مناضلوه ومثقفوه بدمهم وحبرهم حدودهم الروحية اولا ومرجعياتهم القومية والدينية ثانيا، لقد ادرك هؤلاء حجم المؤامرة وعنف الاستعمار ووحشيته في تغييب الشعب عن المشهد من خلال تفكيكه واعاقته عن التطور التاريخي مثله مثل كل شعب آخر.
الآن وبعد مرور مئة عام تقريبا على الاحتلال الانجليزي لبلادنا، وبعد كل ما جرى من فظائع بحقنا، من قتل وتشريد وتفكيك وانكار وشطب، الا ان شعبنا ظل محافظا على وحدته وتماسكه ومطالبه، وهو -أخيرا- لا ينظر الى الحركة الصهيونية باعتبارها التي منحته شهاده الميلاد، بالعكس من ذلك يا سيد ايال زيسر، انه يرى فيها احد اسباب عدم تمكنه من اثبات قدرته على الحياه والعطاء والاستمرار..