الكاتب: د. حسن عبد الله
ببساطة وبلا مقدمات طويلة، أنا من الذين تابعوا كتابات عيسى قراقع، وواكبوا مسيرته الثقافية والإبداعية من إصدار إلى آخر، بل وكتبت تقديمين لكتابين من نتاجاته صدرا في فترتين متباعدتين الأول: "كيف تنام وقيدي يكبل حلمك" و"مربع أزرق"، الأمر الذي يسهّل عليّ وبكل تأكيد مهمة كتابة تحليل لإصدار جديد له، فكيف يكون الحال إذاً والإصدار عن "الدهيشة"، هذا المخيم الذي أعرف حاراته وأزقته وكثيراً من أبنائه، وما زالت تجمعني بعدد منهم صداقه، بل إن الأمور ذهبت أبعد من ذلك، لتتطور حد المصاهرة، وبالتالي من الطبيعي أن أتجول مع "قراقع" في الكتاب من بيت إلى بيت ومن موقع إلى آخر في مكان خبرت تفاصيله خلال دراستي الجامعية أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وأكلت من خبز أمهات أصدقائي، وحظيت بدعائهن.
فاجأني "الكاتب" وأنا مسترسل في قراءة نصوصه بفقرة خصني بها حين استضافني خياله الإبداعي في مقهى غلابا المخيم، حتى ولو كنت بعيداً الآن عن هذا المخيم ولا أتواصل -مكانياً معه- سوى في فترات متباعدة، إلا أن "قراقع" ولتذكيري بتلك المرحلة أصر على استحضاري كلفتة وفاء: ".. في مقهى الغلابا جلس الكاتب حسن عبدالله الذي عشق الحالة الدهيشية، ونام في بيوت المخيم خلال دراسته في جامعة بيت لحم، وأخذ يصطاد الغيم عن الحدائق المزروعة فوق أسطح المنازل، تزوج امرأة دهيشية، وسافر إلى رافات يزرع الأشجار في الذكريات، ليلقب بالرجل الشجري..."، ولم يذكر "قراقع" أنه هو الذي لقبني ب "الرجل الشجري" في حفل إطلاق كتابي "البستان يكتب بالندى".
الصيفي يبدع في تقديمه:-
كتب الأديب والمثقف خالد الصيفي تقديماً لكتاب "الدهيشي". أما أجمل وأعمق فقره أدهشتني وأنا أقرأ التقديم:
"... إن للأرض قمراً واحداً، وللمريخ قمران، ولنبتون أربعة عشر قمراً، أما هذا الكتاب فله ستون نصاً لامست واقع المخيم أملاً وألماً، هماً وغماً، فقراً وعطاءً، همساً وغناءً...".
تقديم "الصيفي" في رأيي مثابة نص أدبي مكتمل بحد ذاته، فيه من رشاقة اللغة وعنفوانها، ما يجعل القراءة رحلة جمال في جمال.
تعريف مختلف للدهيشي:-
في استهلاله عرف قراقع "الدهيشي" بعدد من التعريفات، كل تعريف انطلق من زاوية معينة وربما غير متوقعة، ومن بين هذه التعريفات أَقتبس التعريف التالي: "..الدهيشي ليس اسماً مذكراً ولا مؤنثاً، هو اللااسم، لا ينسب لمكان واضح أو لسلالة وعشيرة، وربما حسب اللغويين هو المندهش والمدهوش المفتوح العينين دائماً...". كل التعريفات الأخرى التي ذكرها "قراقع" لها دلالاتها اللغوية والتاريخية والحقوقية والمجازية، على اعتبار أن المخيم يسبح في اللامكان، وهذه هي المفارقة، لأن المكان الحقيقي لساكنيه ليس هذا المكان.
قاموس الدهيشة:-
لو كان "قراقع" من خارج البيئة الاجتماعية السياسية والثقافية والنفسية للمخيم (هو ابن مخيم عايدة)، لما استطاع أن يكتب نصوصه بهذه الإتقان، وهذه الصورة الحية التي حشدها لإناس دهيشيين أو ولأناس زاروا الدهيشة مراراً وأحبوا المخيم، أو لأناس استحضرهم أدبياً بخياله وحسه، وجاء بهم إلى المخيم، وكأنه لم يجد مسرحاً لتكريمهم وتأريخهم والاحتفاء بهم أفضل من مسرح مخيم الدهيشة المتشكل من الحارات والأزقة والبنايات الصغيرة المتراصة الفقيرة بمكوناتها المادية الغنية روحاً وحلماً وذاكرة.
قال لي "قراقع" ذات يوم بينما كنت أسجل معه حلقة من حلقات البرنامج التلفزي "عاشق من فلسطين":- إنه تعلم في المخيم، وكتب قصيدته الأولى مستعيناً بضوء لامبه كاز في المخيم أيضاً، ونشط سياسياً وثقافياً واجتماعياً في المخيم، واعتقل من المخيم، وأحب من المخيم، وتزوج في المخيم.. فكيف لا يكتب إذاً نصوصه بمداد روح المخيم المتوثبة المحبه القلقة؟!!.
المخيم الذي لا تغمض
له عين:-
أبعاد الكتاب كثيرة ومتعددة، وتحتاج الإحاطة بها إلى دراسة شاملة، تفرد مساحة واسعة للمخيم – المسرح المفتوح الأبواب والفضاءات على الوطن والتاريخ والذكريات والمستقبل. المخيم الذي شهد أحداثاً وفعاليات وتطورات لا حصر لها.. المخيم النضال والمجتمع المتفاعل والتكوين الثقافي والنفسي الجامع لأبنائه، نظراً للسياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي المشترك.
حقيقة الأمر أن كل اسم من الأسماء التي ذكرها الكاتب في المخيم أو من وحي المخيم، يستحق أن نخصص له صفحات، فهو لم يخترْ أسماء عشوائية، فكل اسم له مواصفاته ودوره وبصمته في البنيان المادي والمعنوي الكلي للمخيم، لذلك ولكي تكون دراستي متخصصة وليست عامة، فضلت أن أخصص الجزء الثاني منها للأسلوب... لماذا؟
لانني أعتبر أن هذا الكتاب بالرغم من رسالته التأريخية والتوثيقية هو كتاب أدبي بامتياز.
الأسلوب الذي صيغت به النصوص هو البطل الرئيس الذي احتضن أبطال النصوص كافة، وجعلنا من خلال جمله وعباراته نتحسس نبض المحتفى بهم، ونحلل الخطوط والتغضنات على وجوههم، ونشم رائحة عرق هي مزيج من عرق إنسان وعرق حارات المخيم.
في الكتاب متغيرات صياغية تقنية تمثل تطويراً للتجربة الكتابية العامة للكاتب، فالأسلوب ليس أسلوب كتاب "مربع أزرق"، بالرغم من أن لهذا الكتاب أبطالاً يشبهون في معاناتهم وتطلعاتهم معظم أبطال "الدهيشي".
عناق مستمر بين
الجملتين الشعرية والقصصية
وعين المؤرخ:-
عندما يقع بين يدي كتاب لكاتب اعتدت متابعة ما يكتب ويصدر، من الطبيعي أن اسأل نفسي: ما هو الجديد الذي أتى به على مستوى الشكل والمضمون؟ السؤال ذاته سألته بفضول المتطلع لقراءة الجديد وأنا أدقق النظر في الغلاف الخارجي ل"الدهيشي".
أعلم مسبقاً أن "قراقع" يختار مواضيعه من الواقع، فهو ابن للمدرسة الواقعية في الأدب، لكنها ليست الواقعية النمطية التي تهتم بالمضمون وتهمل الشكل. إنها الواقعية المفتوحة على أشكال التجريب الأسلوبية، فإذا كانت الأسماء والأمكنة والحيثيات الأخرى مستفاة من الواقع، وإذا كان يسمي أبطاله بأسمائهم الحقيقية، ويقدم معلومات مؤكدة عن سيرهم الذاتية، فإنه يشحذ قلمه ويدخل في مباراة أسلوبية مع نفسه وتجربته ليجترح جديداً في التعامل مع الكلمة والجملة والرمز.
يبدأ "قراقع" رحلة الجمع بين حس الشاعر وبراعة القاص من العناوين: "غزالة باب الزقاق"، و"السماء ألقت عليه معطفاً من ثلج"، و"عودة الكناري"، و"رأيت شعباً لا يتحرك الإ نحو السماء"، و"كل عام وبيدكم طائرة ورقية"، و"لا استطيع أن أحضنك إلا بأجنحتي".... في حين تظل عين المؤرخ حاضرة حتى في الجمله الشعرية أو القصصية في الكتاب.
في "الدهيشي" استثمر قراقع ثلاثة أساليب يتقنها فهو في الأصل شاعر وقاص وباحث. مارس الكتابة الشعرية والقصصية وكذلك العمل البحثي التأريخي، بيد أنه في إصداره هذا قد مازج وزاوج في نصوصه بين حس الشاعر وبراعة القاص وعين المؤرخ، ناثراً عبقه اللغوي بالرغم من لهاث المتعبيين ووجعهم، حيث إن جمال اللغة قد نجح في تجسيد خشونة المخيم، فهل من تناقض بين الجمال والخشونة؟ كلا إنه الإبداع، فأن يعبر الكاتب عن أعلى درجات المعاناة بأجمل القوالب اللغوية، يعني أن الأدب قال كلمته بلغته السلسة الرقراقة من جهة والمتمكنة العالية من جهة أخرى.
لاحظوا معي كيف تجلى الشعر والفن القصصي في الفقرة التالية:
"... ما بين البحر واليابسة شعب يغرق وينجو، يربي موته على الحياة القادمة. ما بين الحديقة وسطح بيت اللاجئ في المخيم وتلك الحديقة التي تُركت منكوبة، هناك شمس تدور تلقح البعيد بالقريب وبالخميرة...".
ونستشهد بمقطع آخر يعانق فيه الشاعر القاص: "... وقلنا إن لنا تحت هذا التراب، وفوق هذه التراب، خطى أنبيائنا، وتعاويذ أرواحنا، وإنا أول القادمين مع الغيب، وأول الواقعين تحت ماء السماء...".
الشاعر والقاص ما انفكا ينسجان النصوص ويتمشيان بانبهار في دروب جمال اللغة، يكوّنان الدهشة من حبر حقيقه وخيال تحرسهما عين المؤرخ التي ترقب توظيف المعلومات في مكانها وسياقها الصحيحين.
يكتب "قراقع" ".. وفي البحر تصير كل البلاد مرايا، وتستمر في السفر إلى الأمام، على السفح أعلى من البحر، أعلى من السرو، يطير الحمام من أيدينا إلى جهة حددتها أصابعنا شرق أشلائنا، وتستمر في السفر، وعلى ورق البحر كتبنا نشيد الغرق ونشيد العودة...".
إننا إذاً أمام نصوص كتبت بأسلوب شاعري قصصي وتأريخي، بسلاسة وعمق، لا اسراف في اللغة، ينسج الكاتب نصوص بجملها وفقراتها، بقدر ما يحتاج الموقف، فالتكثيف اللغوي علامة خبرة وحرفيه.
هكذا أضاف "قراقع" للمكتبة الفلسطينية كتاباً جديداً متخصصاً في المخيم، حمل ثقافة و"سيكولوجية" المخيم، وحمل أيضاً جرأة في التجديد الأسلوبي، ف "حنا مينه" وإذا كان قد صُنف بأنه من المدرسة الواقعية التي تعلم فيها، قدم لنا أعمالاً روائية مدهشة من حيث الموضوع والأسوب، فإن "قراقع" وهو ابن للمدرسة ذاتها يحاول في كل كتاب جديد أن يصور لنا الواقع ليس تصويراً "فوتوغرافياً" كما هي الواقعية الخشنة، وإنما بقلم شرب وارتوى من ثقافة واسعة، ومن اطلاع مستمر على أساليب كتابية محلية وعربية وعالمية، لذلك نجده متجدداً باستمرار على مستوى الأسلوب.
وأختم مقترحاً على "قراقع" أن يوسع مشروعه الكتابي القادم لينتقل من العناوين والمعالجات المحددة في مواضيع مستقلة، إلى عمل روائي موسع، فثقافته وتجربته ومعايشته توفر له بكل تأكيد موضوعاً روائياً، إضافة إلى أن لديه قدرة خاصة على الإلمام بالتفاصيل، في حين أن إمكانياته الأسلوبية بما فيها من مهاراة التصوير وجماليه اللغة، وبما يمتلك أيضاً من نفس قصصي تجعل من تجربته الروائية المقترحة عملاً أدبياً نوعياً.