الكاتب:
محمد نعيم فرحات
تعُبّرُ الشعوب عن خبرتها وتجربتها ورؤيتها بأشكال عدة، منها مأثورات القول، التي يجري توارثها جيلا فجيلا، ويتحول بعضها لأيقونات وعلامات في الوعي الجماعي.
بغض النظر عن صلوحيتها النسبية، إلا أن المأثورات، تقول وتعكس وتروي...، وهي حقل مناسب لاستخراج دلالات وأبعاد وتفسيرات تساهم في رسم ملامح لصورة الشعوب ولثقافاتها وسلوكياتها.
قال العرب في الزمن أقوال كثيرة، غير أن حكمتهم التي نصت على أن"الزمن كالسيف أذا لم تقطعه قطّعك" كانت من أعلى قولهم فيه.
لعشرة طيبة تجمعهم - بنيويا - بسوء الصنيع، كانوا أول من أضاعوا حكمة توصلوا إليها وصاروا ضحايا لها. لا نعلم على نحو دقيق تاريخ بلورة العرب لهذه الحكمة البسيطة بمقدار ما هي عميقة، لكننا نعّرف منذ زمن موغل في القدم، من خلال أنفسنا وتجاربنا ومن نتائج التأمل في تاريخنا الفردي والجماعي،، كيف يواصل الزمن عملية تقطيعنا وجعلنا إربا في الحقيقة وفي المجاز معا.
***
كان الزمن هو الهبة العظيمة التي قدمتها الحياة للناس، وتمثلت عبقريتهم أو فشلهم في كيفية استثمارهم له، سواء في تفاصيل يومياتهم أو في تحقيق حاجاتهم الملموسة أو في الذهاب لمجازاته الفسيحة، هناك، حيث استولد خيال البشر أزمنة متعددة من روح الزمن نفسه، وحولوه من مفرد إلى أزمنة.
تواطؤ جماعي على الذات يقيمه العرب بمناسبة الزمن، يجعل من الحياة وفرصها وجمالها وضفافها ضحايا، و يعاني من أثاره الجسيمة: الأفراد والجماعات، وتتجلى خسارتهم للزمن: في العمل والعلاقات والعواطف والتربية والأخلاق والاقتصاد والسياسة والتاريخ وتقدير القيمة وشتى دروب الحياة.
حتى اللحظة لم يشأ وعي العرب أن يفهم الحياة على حقيقتها، إذ ليس من طبيعتها أن تكافئ المخطئين أو المقصرين أو التائهين في ثناياها، ولم يتصالح وعيهم مع حقيقة أن كرم الحياة يتسع لتوبة الناس عن غير الملائم لهم ولها، ولا يذهب نحو غض الطرف عن أخطائهم.وبمقدار ما أن الحياة سخية مع الناس فهي قاسية، والزمن هو اللعبة وحقلها بينها وبينهم.
***
خبرات وجودية، ورسل ودعوات، وفقه حاجة حثت على اتقاء الفشل والخيبة والبشاعة باعتبارها شرورا ضارة، كانت تتطلب من العرب أن يبدلوا عاداتهم تفكيرهم وتعاطيهم مع الزمن، وأن يستثمروه على نحو مختلف عما فعلو، ويضعون حدا لتواصل المقتلة الوجودية التي يعيشون في كنفها، مقتلة لها ضحايا منظورين كثر وضحايا غير منظورين أكثر.
توفر للعرب أن يروا بأم أعينهم ، كيف حوّل الآخرين الزمن، إلى استثمار فريد وثروة وقوة وقدرة وتحقق ومعرفة وسلطة وهيمنة وتفوق، بينما ظلوا هم يطيلون البقاء في أرض يباب، يمجدون الزمن بيد وفي اليد الأخرى يسيئون التصرف معه وفيه باستثناء القليل منهم.
***
المستشرق البريطاني برنارد لويس كان من أكثر بني البشر كرهاً للعرب وامتهاناً واستعلاءً على ثقافتهم واليات تفكيرهم، وغابت عنده على نحو مزرٍ ، ثقافة الاعتراف الموضوعي النقدي بهم، وإنصافهم: بما لهم وما عليهم.
ذات يوم وصفهم بأنهم " قتلة الأزمنة". عقل عربي رهيف من نوع مختلف، أضاف على طريقته بأنهم – قد يكونوا- " قتلة الأمكنة والبراءة" أيضا. مات برنارد لويس ولم يفند العرب بالذخيرة التاريخية الحية للسلوك قوله فيهم.
في مأثورات العرب قالوا: خذ الحكمة من أفواه المجانين، وربما يحتاج ما قالوه في يوم من أيامهم لجملة أخرى لم تتسع لها فطنتهم في الماضي، جملة تدعوهم لأخذ العبرة من أفواه "الكارهين" لهم أيضا، ومن أفواه رهيفة تحزن لأجلهم إلى حد الأسى.
* كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين.