الكاتب:
المحامي علاء البدارنه
تحتجز سلطات الاحتلال منذ عام 2015 جثمانين الشهداء في ثلاجات عالية التبريد، ووصل عددهم إلى 104 جثمان، هذا الفعل الذي يقصد منه إحداث ألم مستمر لعائلات الشهداء، الذين ما زالوا يعيشون مع أحزانهم المركبة الممزوجة بألم الفراق الأبدي والألم الناتج عن عدم قدرتهم على إغلاق دائرة الحزن الشديد، بسبب عدم دفنهم لجثامين أبنائهم، حيث أن إكرام الميت دفنه حفاظاً على كرامته الإنسانية الأمر الذي يساهم في تهدئة أهل الفقيد الذين يعملون على اتخاذ كافة الإجراءات التي من شأنها تكريم المتوفي وفق ما تنص عليه الأديان والشرائع السماوية، وأن احتجاز جثامين الشهداء يعتبر جريمة مستنكرة من البشرية جمعاء ليس في العصر الحديث فقط، بل في عصور ما قبل الميلاد بالحضارة اليونانية القديمة.
إن العقيدة اليونانية القديمة حرمت عدم دفن الموتى واعتبرت هذا الفعل خطيئة، ونصت على ضرورة دفن الموتى ولو كانوا من جيش الأعداء، وهذا ما جاءت به قصة أنتيجون التي تقدمت وحدها وقاومت الملك كريون الجائر الذي أمر بعدم دفن جثمان شقيقها، وقررت وحدها تحدي الأوامر الملكية وأن تلبي الأوامر الإلهية التي تحث على دفن الموتى، وتقوم بدفن جثة أخيها، وتقول انتيجون أي مجد يمكنني أن أفوز به أكثر من أن أعطي أخي دفنا لائقاً، وجميع الناس يوافقوني بهذه المسألة، ولولا أن شفاههم يغلقها الخوف لمدحوني، كذلك قالت يا لحظ الطغاة إنهم يملكون امتيازات القوة الفاسدة وهي أن يرغموا الناس على قول وفعل كل ما يرضيهم.
حظ الطغاة جعلهم يملكون امتيازات القوة الفاسدة، هذه القوة التي أرغمت المجتمع الدولي في الوقت الحاضر على عدم التحرك الجدي لإنهاء جريمة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، هذه الجريمة المحرمة قبل ظهور الأديان السماوية وقبل ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام بحوالي 447 سنة، لكن من المؤكد أن الضمير الإنساني لا يمكن أن يستوعب هذه الجريمة التي تقترفها سلطات الاحتلال الإسرائيلية، مع ذلك يسكت وتستمر سلطات الاحتلال بوضع جثامين عشرات الشهداء داخل ثلاجات بدرجات التبريد عالية جداً، وحدهن أمهات الشهداء وعائلتهم يستطيعون التحدث والتعبير عن احساسهم وشعورهم اليومي في الوقت الذي تحتجز به جثث أبنائهم داخل هذه الثلاجات، وكيف يستطيعون النوم بعد مشاهدة جثمانين الشهداء المجمدة التي تم تسليمها من الثلاجات لشهداء أخرون والتي تبقى ماثلة أمام أعينهم لكن بصورة أجساد أبنائهم، هذه الجريمة البشعة تنتهك قيم الأخلاق البشرية والديانات السماوية ولا يقترفها إلا الطغاة الذي تمادوا في طغيانهم لدرجة يريدون بها تعذيب الأحياء وإحداث الألم الدائم لهم، مع معرفتهم بأن الموت يوجع الأحياء فقط، هذا ما انتجته سلطات الاحتلال من شرائع الانتقام التي تستهدف الأموات بهدف تعذيب الأحياء.
إن احتجاز جثامين الشهداء من قبل سلطات الاحتلال في الثلاجات ومقابر الأرقام يعتبر شكل من أشكال التعذيب الذي تمارسه سلطات الاحتلال على ذوي الشهداء وعائلاتهم، وينطبق عليه نص المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب، لأن الألم الذي يحدثه احتجاز الجثامين وعدم دفنهم كبير جداً، وهذا الألم تقصد سلطات الاحتلال بشكل واضح لا يحتمل التأويل إحداثه لذويهم دون رحمة بهم أو احترام للقيم الإنسانية التي تتشارك جميعها في أن إكرام الميت دفنه، وتحث على قداسة الكرامة الإنسانية للمتوفين وضرورة دفنهم وفق الإجراءات التي تنص عليها الأديان والمعتقدات السائدة في المجتمع، والتي تجمع على أن دفن الموتى فيه راحة لأهل الفقيد الذين تبدأ مصيبتهم كبيرة جداً ومن ثم تصغر مع مرور الأيام، وفي ذات السياق فإن احتجاز جثامين الشهداء يهدف إلى جعل أهالي الشهداء يعيشون الألم الذي يحدثه ألم الفقدان لعزيز بقوته الشديدة من لحظة العلم به وكذلك استمراره بنفس الدرجة دون نقصان، وبهذا الوصف يعتبر أشد ألم نفسي يمكن أن يعيشه أي إنسان في هذا العالم الذي يتباهى بقيمه وقوانينه الإنسانية والحضارية.
إن هذا الألم الذي تقصد سلطات الاحتلال إحداثه لأهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم، يتجسد بحرمان الأهالي من حقهم الطبيعي بدفن أبنائهم وذويهم الأمر الذي يعني واقعياً عدم إغلاق دائرة حزنهم الشديدة وعدم تمكنهم من الانتقال إلى ممارسة حياتهم الطبيعية مع أحزانهم المحتملة، و تعني كذلك عدم قدرتهم على الاستمرار في الحياة من الناحية النفسية، الأمر الذي يؤكد بأن سلطات الاحتلال تستهدف إحداث الألم لأسر الشهداء بقصد عقابهم وهذا الوصف ينطبق عليه المقصد الثاني من مقاصد جريمة التعذيب بنص المادة الأولى من الاتفاقية التي تنص، "لأغراض هذه الاتفاقية، يقصد &
39; أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسدياً كان أم عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما بقصد .................، معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث"، وفي الحالة المعروضة أمامنا نرى أن سلطات الاحتلال تعي تماماً بأن استهداف الجثامين واحتجازها في الثلاجات سوف يحدث ألم لأشخاص غيرهم وهم عائلاتهم وذويهم، مع إدراكهم الواضح بأن الردع الخاص مستحيل ايقاعه لغير الأحياء.أخيراً أن استمرار سلطات الاحتلال باحتجاز جثامين الشهداء هي جريمة تخالف كل القواعد والقيم الأخلاقية والقانونية لشعوب العالم، وهي بذات الوقت جريمة تعذيب لعائلات وذوي الشهداء المحتجزة جثامينهم، نتيجة الألم الشديد الذي يعيشونه بسبب استمرار احتجاز جثامين أبنائهم وذويهم في الثلاجات، هذا العذاب النفسي الذي يمكن وصفه بأنه الأبشع بالعالم، ترتكبه سلطات الاحتلال في العصر الحديث على مرأى ومسمع العالم الحر الذي من المفترض أنه مؤمن بحقوق الإنسان والقيم الإنسانية، دون أي تحرك جدي لاتخاذ إجراءات بحق سلطات الاحتلال لوقف هذه الجريمة المستمرة وتسليم جثامين الشهداء لذويهم، ووقف التعذيب الممارس على عائلاتهم، هذه الصورة من صور التعذيب التي لا يمكن أن يرتكبها إلا الطغاة بوصفهم القائمين بالاحتلال أصحاب القوانين العنصرية المطبقة على الشعب الفلسطيني المحتل.