الكاتب: اياد اشتية
لا أعلم من أين اتى مصطلح "توجيهي"، ولماذا هذه التسمية، بحثت عن دلالاتها اللغوية فوجدتها تتنافى مع التربية الحديثة، حيث أن مفاهيم النظام التربوي يعتمد أكثر في ظل متغيرات العصر على مفاهيم الارشاد أكثر من التوجيه، خاصة أننا نرى طالب الثانوية العامة يواجه مشكلته دون حول لنا ولا قوة، فذاك من كان طفلنا بالأمس نساعده على حل مشكلاته، اليوم يقف على ناصية حلمه ولكنه "يُحَارَب" بظم الياء وفتح الراء، حتى أن استخدامنا معه مصطلحات التوجيه لن يبدل أو يغير شيئ، في ظل وجود نظام إمتحان قائم على الحفظ فقظ، نظام كان مميز في العام 1950، ويراعي التطور العلمي آنذاك، واليوم ونحن نعبر منتصف العام 2022، نواكب التطور التكنولوجي في مناحي حياتنا كافة، إلا بامتحان التوجيهي، فهو إحدى طقوس النكبة المستمرة لشعبنا التي نحييها سنوياً بكل الآم حملها الثقيل على الطالب وذويه والمجتمع ككل، لنتحول بالمفهوم من "التوجيهي الى التوجيعي"، الذي يوجع القلب على نظام رجعي لا يصلح للاستهلاك العقلي البشري.
إن العامل النفسي هو من أهم العوامل التي تسهم في إيصال طالب الثانوية العامة إلى بر الامان، مما يتطلب تعامل بدرجة عالية من المهنية والاتزان في إدارة الامتحان من الاطراف كافة، ليأتي "أبو الحروف" ويضع "الشدة" على رؤوس الاشهاد في الأمتار الأخيرة من الامتحانات للفرع العلمي بتغيير النمط السائد (الذي هو مقيت أصلاً) بإلغاء سؤال (اختر) في امتحاني مبحثي "التربية الإسلامية والتكنولوجيا"، واستبداله بسؤال مقالي ليصبح القسم الأول مكون من 3 اسئلة ب 60 علامة، وأربعة أسئلة مقالية يختار الطالب منها اثنين بواقع 40 علامة، ويعود ليبهرنا من جديد بقرار غير مفهوم لأحد ولا حتى له شخصياً بتعيير الية تصحيح واحتساب العلامات في مبحثي الرياضيات والكيمياء بعلامة واحدة للاختيار من متعدد وتحويل وتوزيع باقي العلامات على بقية الاسئلة!!! وهذا مخالف تماماً للقياس والتقويم، وبالتالي تضرب بعرض الحائط طبيعة الامتحان، والأهم من ذلك كيف استعد له الطالب على مدار أكثر من عام، بمعنى النمط الذي استخدمه الطالب بدراسة المبحث استعداداً للامتحان على مدار سنة كاملة مطلوب منه أن يغير من أسلوبه ونمطه في يوم ونصف قبل الامتحان، ويخرج علينا مسؤول "سمين" من رفيعي المستوى يقول أن الوزارة اتخذت إجراءاتها الخاصة، لحماية امتحان الثانوية العامة، من الجيد أن نحمي الامتحان..وان نحمي سمعة الامتحان..حتى لو كان ذلك على حساب "ولادنا" طلبة الثانوية العامة وذويهم، فلا وجود لأي مشكلات في عملية التشتيت أو زيادة القلق ورفع الادرنالين وكأننا نمارس لعبة الحبار بين الطالب والمنظومة التربوية.
تعاملنا مع طلبة الثانوية العامة كالنعام ندفن رؤوسنا بالرمل، اذ اعتقد الكثيرون أن فوج هذا العام قد تجاوز جائحة الكورونا وعاد "لينتهل العلم" في الغرف الصفية في تعليم وجاهي، وتناسينا، أن تراكم السنوات الماضية منذ انتشار الجائحة كان بنظام التعليم الالكتروني، اتدركون يا سادة كمية الفاقد التعليمي الذي تراكم خلال الصفوف التاسع والعاشر والحادي عشر، اتدركون أن المنهاج تراكمي؟ وأن التعليم الوجاهي في "عام الفيل" عام الثانوية العامة انقضى أغلب فصله الدراسي الأول من خلف الشاشات؟؟
فتاة "مراهقة" تظهر في احدى الفيديوهات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي تزلزل كيان المنظومة، وفعلاً من حق التربويين والمسؤولين الخوف، لكن ليس الخوف على الامتحان، انما الخوف من أثر الفاقد التعليمي والتربوي والذي رئيناه في حديث الطالبة، الخوف من جيل تم تجهيله بشكل متكرر دون قصد وعبر سنوات ثلاث، جيل لا يميز بين الصواب والخطأ إلا من رحم ربي، الخوف من تبعات القرارات الارتجالية في الدوام وطبيعة اعطاء الدروس والنمط التعليمي.
إننا نحصد اليوم ما زرعناه من تعاطينا مع إدارة الازمات والمشكلات، نحصد أثر تعطيل المدارس بقرارات غير مدروسة على مدار السنوات الثلاث الماضية، أثر التعاطي مع مشكلات الاضرابات التي طالت قطاع التعليم، نتعامل اليوم مع أثر تمكين المعلم وتطوير مهاراته، فالخبرة ليست بسنوات الخدمة يا سادة، وإنما الخبرة تتأتى بالابتكار والخروج عن المألوف والتفكير خارج الصندوق.
ألا يوجد حكيم في المنظومة التربوية يأخذ على عاتقه تطوير هذا النظام البالي، هذا النظام الذي كان يصلح في خمسينات القرن الماضي، نحن اليوم في عصر التكنولوجيا الحديثة وتسارع المعلومات وهذا يتطلب منهجية جديدة تواكب التقدم وتقوم على تبسيط هذا النظام الموسوم بالرجعية.
وهنا اسأل كل من يقرأ هذه الكلمات.. هل امتحان التوجيهي على هذه الدرجة من القداسة بحيث لايجوز الاقتراب من حدوده او تغييره او المساس فيه ؟
أحد عشر غرفة صفية على مدى أحد عشر عاماً يكون فيها النمط ثابت، بسياسة التلقين، ويأتي عام الضغط النفسي ليتوج هذه المرحلة تحت شعار (أن تحفظ تنجح!)، لا يهم الفهم، لا يهم رأي الطالب، لا يهم ادراكه للامور، المهم ما سيتناوله من وضع الامتحان ووضع عقده النفسية بين الأسطر فعاقب الطالب واهله واصدقائه وذويه ليثبت لنفسه عقدة النقص، وأن لا أحد في المدينة قادر على حل هذه المعضلة.
لقد تناسى المسؤولين عن هذا الأمر أن "طلبة القدس حصرياً" يناضلون في التصدي لمنهاج الاحتلال "البجروت"، وأن التوجيهي هو الدرع الذي يتحصن به الاهالي لحماية ابنائهم من تهويد التعليم وطمس الثقافة العربية الفلسطينية واستبدالها بالثقافة الاسرائيلية، الم يعي أولي الأمر أن الغالبية العظمى من الاهالي والابناء سيهجرون قاعات الامتحان بنظام التوجيهي القائم وسيلجأون الى "البجروت" من باب "أرحم"؟ نتسائل ونتسائل فهل من يصيغ السياسات التربوية مرتبط وعلى علاقة بالبعد الوطني؟ لا نشكك في النوايا أبداً، لكن القضية هي كل متكامل لا تتجزأ وصمود أهلنا في القدس في وجه غطرسة المحتل بحاجة لدعم واستثمار بالنشئ، وليس "تطفيشه" بسبب تنفيذ رؤية أحدهم قصير النظر.
موضوع الثانوية العامة لا يمس طلبة التوجيهي فقط أو عوائلهم بل هي حالة رأي عام لا بد من أن يقرع جدار الخزان من كل مواطن وتربوي وعامل ورب أسره من كل من يهمه اصلاح حال البلد والاجيال القادمة في ظل واقع صعب ومرير.
قبل أن نسن السكاكين على الطلبة لا بد أن نراعي أنهم في واقع استثنائي تكرر انقطاعهم الجزئي أو الكلي عن التعليم لفترات زمنية على مدار السنوات السابقة، دون وجود رؤية مستقبلية حقيقية لمعالجة الأمر، ناهيك عن واقع المنظومة التربوية التي تعتمد على التلقين دون ان يفتح مجال للطالب على ابداء رأيه، وعن واقع بعض العاملين في قطاع التعليم فحدث ولا حرج وكفانا تجميل للصورة القاتمة، فالجزء الاكبر بحاجة لاعادة تأهيل وصقل للمهارات حيث أن الطالب يتتلمذ على يد معلم ذو خبرة بسيطة ومهارات بالكاد تفي بالغرض، وتأتيه في نهاية العام أسئلة من رائد فضاء لا وجود لعلمه في مدارسنا وهذه ليست رؤيتي الشخصية فحسب وانما رؤية من خاضوا غمار هذه التجربة.
رسالتي للمسؤولين عن هذا النظام ابنوا طالب حقيقي لمدة أعوام ليكون جاهز لنمط عصري يراعي ذكاءه وقدراته وميوله وابداعاته وليس فقط قدرته على الحفظ، من يريد أن يستثمر بالوطن الجميل فلا بد أن يبني الانسان الجميل، والجميل فكرياً وعلمياً ونفسياً وليس من اجتاز سباق العقبات والعوائق في ما يسمى التوجيهي.
نحن لا نتباكى على الاطلال وإنما أمام مشكلة تربوية بامتياز، بحاجة لتظافر جهود الجميع، وكما نذكر المشكلة نذكر حلول، فاذا كان امتحان التوجيهي هو أحد أبرز اعمدة تقييم الطلبة الذين سيلتحقون بالجامعات ولأن المعيار والمقياس هو العلامة فلا بد للخبراء التربويون والمنظرون في مجال التربية والتعليم "وما أكثرهم" من ايجاد بديل للتوجيهي يعكس الصورة الواقعية لمستوى الطاالب، يساعده على اثبات ذاته بغض النظر عن مفهوم ومقياس أبجدية الحفظ والعلامة، فعلى سبيل المثال للحصر من الممكن أن يكون النظام تجميعي للسنوات الثلاث الأخيرة من الحياة المدرسية، بمعنى أن تكون جزء من العلامة مقسمة على سنوات ثلاث وفصول دراسية ستة، لتخفيف الوطأة، وكذلك إبراز جانب الموهبة والقدرات الذاتية في المجال الذي يرغبه الطالب ويبدع فيه وليس بشكل اسقاط واضح من المنظومة، نحن لا نقول يلغى امتحان، فالامتحانات جزء أصيل من التقييم والتقويم، ولكن لا يجب أن تكون هي كل شيئ.
نطالب من ذوي الشأن إعادة النظر بطريقة احتساب علامات الطالب والا تكون علامة التوجيهي هي المعتمدة فقط ، في البلد جيش من الخبراء والمستشارين الذين نتمنى عليهم ان يبادروا الى دراسة المشكلة ويجدوا لها الحلول الناجعة .. أما إذا بقيت الأمور على حالها وبقينا ندافع عن قدسية امتحان فقد عذريته منذ الأزل.
خلاصة القول.. لقد فشلنا في المنظومة التربوية في التعامل مع هذا النظام البائس منذ الأزل، وبعيدا عن ضجيج المؤتمرات الصحفية والخطب الرنانة، وحصر اعداد جيش المراقبين والمصححين ومدير القاعات وقوى الامن، والتغني بنجاح عملية ادارة الامتحان، و و و، فشلنا أن نكون مختلفين، ان نغير من الواقع بشيئ رغم تجميل الصورة.. انا انتظر المؤتمر الصحفي بفارغ الصبر لاستمع ما سيقال حول نجاح الامتحان، والطريقة التي سيحتذي بها العالم في فن ادارة الامتحان وادخال عنصر المفاجئة المشوقة للطلبة لتحفيزهم على تلقي الصدمات، وأكاد أجزم وبشكل قطعي أن هذا المؤتمر سيلغى لدواعي فنية..
وما زلنا ننتظر التغيير.. فالى متى.. ألا يوجد حكيم في أروقة المدينة؟