الكاتب: هداية شمعون
أتعرض للتنمر بشكل يومي تقريبا منذ شهر ونصف، أواجه هذا التنمر بالكثير من الصدمة والذهول لمدى قسوته وتكراره سواء بالسلوك أو رد الفعل أو لغة الجسد ونظرات العيون والأيدي؟؟! كل ما في الأمر أني بدأت أقود سيارة العائلة في خط سير يومي من محافظة رفح إلى محافظة غزة، ثم العودة بذات الشكل في نهاية اليوم؟!
في البداية غافلتني الصدمة والذهول من مدى قسوة هذا التنمر، والكثير من الاستغراب والذهول هل حقا هذا يحدث كل يوم؟؟ ردود فعلي تنوعت واختلفت تبعا لتجربة كل يوم، ولا أخفيكم كنت في بعض الأحيان أقوم بعملية الفحص والقراءة لما يحدث...! وأحاول أن أزيل شعور الغرابة من أن هذا يحدث فعليا ولا مبالغة في الأمر لا من قريب ولا من بعيد...!
لقد وصلت لمرحلة هل وصلنا إلى هنا فعلا.. حسنا لنرجع قليلا إلى الخلف.. رغم قناعتي ونهجي الدائم بأنني يجب أن أسير إلى الأمام متخطية كل الصعاب لكني أكتب الآن من واقع تجربتي المتواضعة لأن هنالك فتيات كثر ونساء قد لا يستطعن الكلام أو يشعرن بالخجل من الأمر وكأن الأمر شخصي، أو يجبرن على الصمت كي لا يتعرضن أيضا للتنمر من أقاربهن ومن المحيط المجتمعي وقد يكون الإفصاح عن الأمر فيه ضغط مجتمعي مضاعف لن يتحملنه إلى جانب كل ما يواجهنه يوميا، وهذا حقهن ولكني قررت أن أكتب كوني إعلامية وكوني قادرة على مواجهة هذا التنمر بطريقتي حتى الآن لكن الصمت ليس خياري المفضل، فهنالك استخفاف مريض يزداد يوما بعد يوم بنا كنساء وفتيات، لذا يجب أن أكون قادرة على صياغة هذا المشهد برؤيتي التي أطل من خلالها على المجتمع.
في الأسبوع الأول واجهت الكثير من المواقف أولها على الإشارة الضوئية لشارع صلاح الدين هنالك مجموعة أطفال بعضهم يتسول والبعض الآخر مع شاب يبيعون المياه المعدنية ذات العبوات الصغيرة، ورغم أن وجودهم غير محبذ ولا آمن بالمكان بالمجمل حيث تفتح الإشارة فجأة وهم بين السيارات ينتشرون، وبعضهم يدق زجاج النوافذ المغلقة طلبا لشيكل أو أكثر. (تسول)...! جاء أحد الأطفال يحمل زجاجة الماء باتجاهنا في السيارة وشكرناه بإشارة من يدنا، ليعلو صوت الشاب من الناحية المعاكسة.. قائلا:"سيبهن النسوان بيشربنش مية؟؟!" كنت وصديقتي في السيارة وفتحت الإشارة في نفس اللحظة لننطلق بالسيارة والذهول والاستغراب من الشاب وسؤال يعلو وجهينا.. بماذا يفكر هذا الشاب ليقول مثل هذه السخافة...!
أحدهم يقطع المفرق وصديقه بينما ترك خلفه مجموعة أخرى، ثم توقف في منتصف الاسفلت وهو يدير وجهه لحركة السيارات القادمة في سيرها الطبيعي تجاهه، وأكمل الحديث بصوت مرتفع...! أطلقت بوق السيارة ليبتعد عن الطريق الا أنه لم يتحرك وصديقه من منتصف الشارع، أعدت إطلاق البوق مع تخفيف سرعة السيارة ولم يكترث ابتعدت عنه قدر الإمكان وأشرت له بيدي من السيارة قائلة.. يا عمي هذا أسفلت للسيارات، فما ان أدرك أن السائقة امرأة وكنت قد تجاوزته: حتى أخذ يصرخ بحدة.. اسكتي انتي اسكتي...!! مرة أخرى ما الذي يريد هذا الرجل أن يثبته...!! وما الذي لا يتقبله مثلا أن يتلقى النصيحة من سائقة؟؟!!
في طريق مكتظ بالسيارات أمام أحد المستشفيات وبالكاد هنالك متسع لطريق باتجاهين، حاول أب (شاب) ومعه طفل صغير بالكاد يبلغ عامين أن يقطع الطريق بطريقة مفاجئة، فتوقفت وأشرت للطفل الصغير الذي يكاد أن يفلته من يده وقد كانت المسافة صفر (قلت): حرام عليك الولد الصغير.. فصرخ مهللا ادعسيه وهاتي الدية؟!! ما الذي يفكر به أيضا هذا الرجل...! ولماذا تحرص الغريبة على طفله وهو لا يفكر بحياة الطفل بقدر تفكيره بالمال الذي سيناله لا قدر الله في حال مكروه حدث؟!!
بعض الصبية حين يرون صبية أو امرأة تقود السيارة يتعمدون الوقوف في وجه السيارة واعتراض طريقها، وآخرون يركضون خلف السيارة صارخين.. خلينا نسوق ...!! هل يرددون نفس المقولة والرغبة للرجال السائقين ربما..! لا أعرف حقا؟
الكثير من المواقف تكررت وتعددت فما أن يلمحوا فيها صبية أو امرأة حتى يعلو صوت المتنمرين مهي لو بتعرف تسوق؟؟! من قال أن الرجال أكثر مهارة في السياقة؟!! ما رأيته خلاف لذلك تماما...! هنالك سائقي الشيكل لا علاقة لهم بأي مهارات للسياقة باستثناء الحصول على ركاب، ولأنهم يرون الركاب شواكل فإنهم لا يفهمون ولا يعرفون إلا لغة السرعة والتهور ولا يعرفون الإشارات ولا الغمازات وكأنهم يقودون وحدهم وكل ما يفهمونه هو التجاوز فحسب...!!
تكرر موقف على الإشارات الضوئية بين المحافظات على شارع صلاح الدين الإشارة لاتزال حمراء وبعض السائقين يبدأون بإطلاق بوق سياراتهم وكأن من أمامهم يوقف حركة السير بينما هم لا يحترمون توقيت تبديل الإشارة، وكأن الثواني يقودون فيها على صفيح ساخن لا يمكنهم الصبر؟؟! كثيرون يتجاوزون الإشارة الضوئية وكأن شيئا عاديا يحدث؟؟! وحدث ولا حرج الدراجات النارية والعربات التي تقودها الحيوانات كأنها تسير على فيض الرحمن لا علاقة لها بإشارة ضوئية ولا سرعة ولا غيره تجدها في كل مكان دون أي ثقافة مرورية، والأسوأ من يقودون بكل برود عكس حركة السير ويقتحم طريقك، وما أن يلمح السائقة حتى يصبح غير مكترث مطلقا يمشي الهوينة ويصبح مطرب شعبي لا تفهم ماذا يريد؟!!
أحدهم يغني بصوت صاخب مسيطرة فقط لعدم سماحي لأحد السائقين بتجاوز السيارة في طريق مزدحم وكأنه فعل مستحيل؟! غريبة ردود الفعل والسلوك تجاه النساء.. فقط إذا كانت السائقة امرأة تعلو أصواتهم بشعور الجنس المتفوق والمشكلة أن كل الاعمار تشترك في الأمر طفل أو شاب أو رجل؟!!
الغريب في الأمر التساوق الكبير والتماهي مع فكرة أن يتنمر عليك من حولك فقط لأنك امرأة، طبعا هنالك تجارب أكثر قسوة سمعتها من الكثير من السيدات والصبايا اللواتي يقدن سيارتهن، فهنالك من وقع في طريقها من يمتهنون مهنة القاء أجسادهم على السيارات للحصول على عائد مادي، وهنالك من قام البعض بتخريب إطارات عرباتهن لأنهن في مكان لا يفضلون أن يكون مكانا لاصطفاف سيارتهن، وهنالك من لا تجد ثقة حقيقية فيمن حولها بكونها جديرة بقيادة السيارة وكأنها جاءت من فلك آخر تبقى النظرة لها منقوصة...!
رغم أني كنت اعتقد أن هذا التفكير وهذه النظرة غير موجود ة لدينا وهنالك العشرات، بل المئات من الفتيات اللواتي يقدن سياراتهن أو سيارات عائلاتهن بمهارة ويسر إلا أن ما أراه يوميا من سلوك ومواقف جعلني أفكر كثيرا.. ما الذي تغير فينا ولماذا أصبح التنمر صفة لاذعة وفعل مقرف يزداد يوما بعد يوم؟! لماذا تسهل بالنسبة للكثيرين حرمة الطرقات وكأننا تربينا على قلة الاحترام كثقافة مجتمعية؟! لماذا هنالك الكثير من الشواهد والأفعال تنم عن قلة الأخلاق وقلة الذوق العام.!!
لست بصدد تعميم أي صورة أو فرضها بتجربة بسيطة لازالت في بداياتها إلا أنني لن أسقط أن هنالك الكثير أيضا من المواقف التي تنم عن احترام الكثير من الرجال في مواقف متعددة واسراعهم للمساندة إن تطلب الأمر، ولا أخفى أيضا دماثة أخلاق بعض أفراد الشرطة في الكثير من المرات، وأيضا لا أستغرب سلوك بعض الرجال المشجع والمحفز لمن تقود فهؤلاء هم الأصل في مجتمعنا والآخرون هم الأوراق المتساقطة.
إن الثقافة المرورية لكل مكونات الطريق ليست متوازنة اطلاقا في بلدنا، فشريحة كبيرة من السائقين لا يفهمون الا لغة القوة والتجاوز وكأنهم يسابقون الزمن، وآخرون يعيقون حركة الطريق بقصد ودون أي احترام لغيرهم، ناهيك عن المشاة الذين يتعاملون مع السيارات في بعض الأحيان بتجاهل تام وكأنهم لا يرونها، ولن أخفي أيضا رغم أن هذا سياق آخر للنقاش مدى سوء الكثير من الطرق خاصة بين رفح وخانيونس (ترقيع) وما أكثر المطبات في كل شوارع غزة، والتي لا نفهم ما هي معايير وضعها أو المسافات بينها.!!، ناهيك عن الإشارات الباهتة على الأسفلت وقد بهت لونها والاشارات المحدودة المتوفرة، اننا بحاجة إلى نظام متكامل وثقافة مجتمعية مرورية للجميع دو ن استثناء.
إن ما أطرحه يأتي في سياق أهمية أن نكون أكثر وعيا لأنفسنا وما نقوله وما نفعله لأنه يؤثر على الآخرين.!! ويؤثر على أجيال من الفتيات اللواتي يرغبن بالاستقلالية ولديهن القدرة على أن يكن بخصوصية تامة في سياراتهن في ذهابهن وايابهن لدراستهن أو لأعمالهن أو سياقهن الأسري..
السلوك إنما هو مؤشر عن الموروث الثقافي وبما يتضمن الصورة النمطية للمرأة، والتي يسيطر عليها التهميش والدونية، متى سنتخلص من هذا التفكير السطحي ومتى سنحترم وجود النساء وأدوارهن في المجتمع.. ارفعوا أيديكم عن النساء وكونوا سندا لا مطبا آخر في حياتهن...!