الكاتب:
جمال زقوت
تتراجع نسبة المؤيدين لما كان يعرف "بحل الدولتين" باضطراد متسارع، حيث أظهر استطلاع أخير أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في الضفة الغربية وقطاع غزة "22-25 يونيو 2022"، أن 69% تعارض هذه الفكرة، وفي نفس الوقت فإن نسبة 75% لا تؤيد حل الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية. هذه المؤشرات في الواقع تظهر مجموعة من القضايا الجوهرية إزاء مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وطبيعة الأهداف الاستراتيجية للفلسطينيين. فقد بات واضحاً أن تزايد واتساع نطاق الاستيطان وغياب فرص أي عودة جادة للتسوية السياسية التي سبق وشكلت ركيزة لما يسمى بحل الدولتين، دون تدخل دولي ملموس لجهة الوقف التام للاستيطان وتشجيع الفلسطينيين على إنهاء الانقسام، جعل من مثل هذا الحل غير واقعياً أو غير عملياً، كما تشير تعبيرات وصف تراجع هذه الفكرة، وربما أن اتساع الفجوة بين مكونات الشعب الفلسطيني والقيادة الرسمية التي ما زالت تتبني حل الدولتين كخيار وحيد وكمكون رئيسي للمفاوضات السياسية مع إسرائيل ، تعتبر واحدة من أهم الأسباب التي تقف وراء هذا التراجع في نسبة التأييد لهذه الفكرة التي لم تتجاوز نسبتها 28% في ذات الاستطلاع، كواحدة من مظاهر فشل هذه القيادة من وجهة نظر الجمهور.
إن ربط حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيرهم حصراً بما يسمى "حل الدولتين" وفقط كنتيجة للمفاوضات، وفي ظل تعنت حكومات إسرائيل المتعاقبة واصرارها على عدم الاعتراف بهذا الحق الطبيعي، جعل من فكرة الاستقلال الوطني الفلسطيني في إطار مفهوم حل الدولتين ومضمون الدولة الفلسطينية ذاتها، رهينة للموقف الإسرائيلي والڤيتو الذي ترتفع وتيرته داخل المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة حد التراجع الرسمي والكامل عن فكرة "تمكين الفلسطينين من إقامة دولتهم مهما كانت الشروط التي يمكن فرضها على الطرف الفلسطيني لهذه الغاية، فأقطاب حكومة "لبيد بينيت غانتس" سحبوا فكرة حل الدولتين من التداول، وكذلك حكومة نتانياهو السابقة، أو المتوقع تشكيلها مجدداً بعد انتخابات نوڤمبر كما تشير بعض استطلاعات الرأي، بعد حل الكنيست تمهيدا لإجراء انتخابات جديدة. فجميع أطياف المؤسسة الحاكمة في إسرائيل لا تنظر لمسألة الدولة الفلسطينية "طالما هي تمتلك هذا الڤيتو" بأكثر من محمية أمنية، أو كيان في غزة، وكانتونات في الضفة مرتبطة بهذا "الكيان" أو في إطار إحياء الخيار الأردني الذي طالما روّج له اليمين الإسرائيلي. ولهذا هي ترفض حتى مجرد العودة للمفاوضات، وهناك سلسلة من المؤشرات التي تظهر انسحابها الكامل ليس فقط من اتفاق أوسلو، بل ومن مجرد اعترافها بمنظمة التحرير، في وقتٍ تواصل فيه الضغط لإعادة تشكيل هذه المنظمة وفق مقاسات الرؤية الإسرائيلية البحتة لمستقبل السيناريوهات المتداولة في مراكز صنع القرار السياسي، كما تواصل تأثيرها لاستمرار الانقسام وتفتيت الحركة الوطنية والنظام السياسي الفلسطيني، كي يصبح ما يسمى "بحل الدولتين" أمراً مستحيلاً. فهذا التراجع الشعبي في نسبة التأييد لحل الدولتين يشكل مؤشراً للخروج من قبضة الڤيتو الإسرائيلي عليه، أكثر مما هو رفضاً لمبدأ الاستقلال الناجز بدولة مستقلة كاملة السيادة عندما تتوفر لحظة سياسية لانتزاعه.
كما أن تراجع نسبة التأييد لحل الدولة الواحدة ذات الحقوق المتساوية يأتي في الواقع بسبب تصاعد سياسات التمييز العنصري، وطغيان حالة الأبارتايد في سلوك النظام السياسي الإسرائيلي مع مختلف مكونات الشعب الفلسطيني، بما في ذلك داخل الأرض المحتلة منذ عام 1948. دون أن تكون هناك استراتيجية فلسطينية مقابلة وجدية لمواجهة النظام العنصري في إسرائيل، أو جبهة جدية موحدة "فلسطينية إسرائيلية دولية" تناضل من أجل نزع الطابع العنصري عن الحركة الصهيونية التي نشأت كنقيض للحقوق الفلسطينية في هذه البلاد، وهو ما يفسر شبة الإجماع القومي من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على رفض حق الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره، والذي توِّج بتشريع قانون القومية الذي يشدد على أن الحق في تقرير المصير من البحر إلى النهر هو حصراً لليهود في هذه البلاد.
إن غياب المراجعة لاستراتيجيات العمل الفلسطيني، وانتقال الصراع على فكرة حل الدولتين أو الدولة الواحدة إلى حالة خلاف فلسطيني داخلي، تضاف لمسائل التباين والخلاف الأخرى، بعيداً عن جوهر هذا الصراع باعتباره أولًا صراع جذري مع أطماع التوسعية الصهيونية التي لم تتخلى يوماً عن هدفها في اقتلاع الفلسطينيين من هذه البلاد، وأنها مسألة احتلال عسكري استعماري يسعى لذات الهدف، أو حشر الفلسطينيين في كانتونات معزولة ومفككة وغير قادرة، سيما في حال استمرار الانقسام، على التحول لكيان مركزي يستجمع ويستنهض عناصر قوته، ويعزز الالتفاف الشعبي حول حركته الوطنية التي لابد لها من تجديد نفسها، لإعادة الصراع لجوهره بهدف إنهاء الاحتلال والظفر بحق كل الفلسطينيين بتقرير مصيرهم على أرض الآباء والأجداد.
لم تعد الاغلبية الساحقة من الفلسطينيين مكترثة بشكل الحل السياسي بقدر ما تجمع فيه هذه الأغلبية على متطلبات الوحدة والإدارة الموحدة للصراع، وإعادة الاعتبار لجوهره بإنهاء الاحتلال أولاً وانتزاع الحق في تقرير المصير، أما كيف يمكن ممارسة هذا الحق سواء في دولة مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل، أو دولة واحدة في إطار حقوق متساوية، فتحدده طبيعة موازين القوى ذاتها في تلك اللحظة، ومدي تراجع الطابع العنصري لدولة الاحتلال، واستعداد المجتمع الدولي لأخذ دوره الملموس لحل هذا الصراع المزمن، وليس الاستمرار في إدارته، و مغادرة المعايير المزدوجة إزاء الصراع، الأمر الذي جعل إسرائيل تتصرف وكأنها فوق القانون الدولي والحاجة الاستقرار الإقليمي، وتواصل رفض كل أشكال الحلول وفق الشرعية والقانون الدوليين، ولا تبقي أمام الفلسطيني سوى خيار استمرار الصراع و حيث تري نسبة عالية ضرورة العودة للكفاح المسلح، بينما تواصل اسرائيل، ومعها نفاق المجتمع الدولي للمسارعة بمحاولات وصمه بالإرهاب. لقد آن الأوان للتصدي للعبة الإسرائيلية بتقويض حل الدولتين الذي سبق وأيدته الأغلبية الفلسطينية، وعدم استعدادها لحل الدولة الواحدة الذي يتناقض مع طابعها العنصري، والسؤال من هي القيادة القادرة على ذلك، وما هي سبل الكفاح الأكثر تأثيراً وتحظى بالإجماع الوطني الذي يمكن أن تديره مثل تلك القيادة؟
هذا الارتباك في خيارات الفلسطينيين مرده حالة الشرذمة والانقسام السياسي والجغرافي ، وما يحمله من مخاطر اندلاع الفوضى الداخلية. فالتصدي لهذا الواقع هو المدخل لبلورة استراتيجية كفاحية واقعية عنوانها الوحدة والصمود، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وضرورة أن تعيد الاعتبار لطابعها الإئتلافي كحركة تحرر وطني تضم الجميع دون استثناء في معركة إنهاء الاحتلال وانتزاع الحق في تقرير المصير، في إطار حكومة وحدة وطنية أولويتها العليا تعزيز الصمود وحق الناس في مواجهة الاحتلال، وكذلك حقها في المشاركة السياسية وانتخاب قيادتها عبر انتخابات عامة شاملة شفافة ونزيهة لتجديد بنية واستراتيجيات عمل النظام السياسي الفلسطيني وتعزيز وحدته، وليس استمرار الرهان على بايدن أو لبيد، فكلاهما لن يحرك ساكناً دون استعادة عناصر القوة الفلسطينية وقدرة الناس على الصمود ومقاومة المحتل .