الكاتب: عبد الناصر فروانة
في الوقت الذي يتابع فيه طلبة الثانوية العامة نتائج امتحانات التوجيهي التي تقدّموا لها قبل شهر تقريبًا، ينتظر المئات من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي إتمام الشروط اللازمة وتوفُّر الظروف المناسبة بما يمكّنهم من تقديم الامتحانات، وسط ظروف معقدة وسرية تامة، على الرغم من المنع الإسرائيلي والإجراءات التعسفية اليومية التي تنفّذها إدارة السجون، وبينها مصادرة الحق في التعلُّم ومحاربة الأنشطة الثقافية.
لقد أكدت المادة (94) من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، وكذلك الفصل الخامس، المواد (34،35،36،37،38) من اتفاقية جنيف الثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب- المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949- على حق الأسرى والمعتقلين في ممارسة الأنشطة الدينية والتعليمية والثقافية والذهنية والترفيهية والرياضية، ومواصلة الدراسة والانتظام في المدارس، سواء داخل أماكن الاعتقال أو خارجها، بما يكفل تعليم الأطفال والشباب، وحثت كلا الاتفاقيتين الدولةَ الحاجزة على تشجيع المحجوزين على القيام بذلك، واتخاذ التدابير الكفيلة والتسهيلات الكافية وتوفير الأماكن الملائمة والأدوات اللازمة التي تكفل ممارستها من دون معوقات.
لكن إسرائيل تتصرف كدولة خارجة عن القانون، أو دولة فوق القانون، يحلو لها أن تخرق القانون الدولي وقتما وكيفما تشاء!
في الأعوام الأولى التي تلت احتلال سنة 1967، لجأ الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون إلى تهريب الأقلام، والكتابة على علب السجائر والأوراق الفضية الرقيقة التي تغلف السجائر، والعلب الكرتونية لمعجون الأسنان وصابون الحلاقة، فضلاً عما كان يقع بين أيديهم من كرتون وقصاصات ورق، وغيرها مما تصلح الكتابة عليها، وتدوير المعلومات بشكل سري فيما بينهم. بينما كانت إدارة السجون تُجري تفتيشات مفاجئة وتصادر ما يقع بين أيدي السجّانين من أقلام، وهي نادرة، وأوراق شحيحة، وتعاقب كل مَن تجد قلماً لديه، أو ورقة كتب عليها.
وفي وقت لاحق، تمكن الأسرى، وعبر المطالبات المستمرة والاحتجاجات المتكررة والإضرابات عن الطعام، من انتزاع حقهم في امتلاك القلم والدفتر والأدوات القرطاسية وإدخال الكتب التعليمية، وتبعها انتزاع حقهم في الاجتماعات بين جدران غرفهم وما تُسمى الجلسات، الثقافية والتنظيمية والتعليمية، وأحياناً على نطاق أوسع في ساحة الفورة، وعقد مناظرات ودورات تعليمية مختلفة في شتى الميادين، الأمر الذي شكّل أساساً لبناء عملية ثقافية وتعليمية بشكل منظم داخل سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي.
سرعان ما أدركت إدارة السجون الإسرائيلية أهمية ما تحقق بالنسبة إلى الأسرى والمعتقلين، وخطورته على توجهاتها واستراتيجيتها، لكنها وقفت مكتوفة الأيدي، عاجزة عن مصادرته أمام وحدة الأسرى وتماسُكهم ونضالاتهم وإرادتهم القوية وإصرارهم على الحفاظ على ما تحقق، بينما نجحت بالمقابل في التضييق عليهم، وانتقلت من مرحلة منع القلم والورقة إلى محاربة المادة المكتوبة، في محاولة منها لإفراغ ما تحقق من مضمونه، ووضعت قيوداً عديدة، وبدأت بتحديد كمية الدفاتر ونوعية الكتب المسموح بإدخالها، ومراقبتها والمماطلة في إيصالها، واقتحام الغرف وإجراء التفتيشات المفاجئة ومصادرة بعض الكتب التي سبق أن سُمح بإدخالها، وإتلاف المادة المكتوبة على الأوراق وصفحات الدفاتر، ومنعت الجلسات والتجمعات الثقافية في بعض الغرف والساحات العامة، متذرعةً بحجج مختلفة.
لكن الأسرى استمروا في نضالاتهم من أجل ترسيخ وتثبيت ما تحقق، وانتزاع المزيد من الحقوق لاستمرار المسيرة الثقافية والتعليمية، ونجحوا في التصدي لإجراءات إدارة السجون وتحسين أوضاعهم وتوفير أغلبية متطلبات العملية الثقافية والتعليمية، وأدخلوا مزيداً من الكتب، وأنشأوا مكتبات خاصة في كافة السجون، تحتوي على مئات الكتب المطبوعة والكراسات المتنوعة التي دوّنها الأسرى أنفسهم، والتي كانت تشمل عناوين ومضامين متعددة، سياسية، دينية، ثقافية، تاريخية، أمنية، أدبية وفنية، بالإضافة إلى تكوين مكتبات خاصة بالتنظيمات الفلسطينية، تحتوي على أدبياتهم ونشراتهم الداخلية ولوائحهم التنظيمية ودراساتهم الخاصة وبعض الكتب العامة. ووضعوا برامجهم الثقافية وفقاً لما هو متوفر من مواد مقروءة، وما هو موجود بين الأسرى من كفاءات علمية وأكاديمية وثقافية ومهنية وخبرات اعتقالية، إذ تنوعت البرامج لتشمل دروساً وجلسات ومسابقات وتثقيفاً ذاتياً وإصدار نشرات متنوعة في التاريخ والسياسة، والدين، والاقتصاد، وفي العمل التنظيمي والشؤون الاعتقالية، وفن الكتابة والعمل الصحافي وتعليم اللغات، والأدب والفن، علاوة على برامج خاصة لمحو الأمية؛ بحيث يمكن القول أنه لم يدخل أحد من الفلسطينيين إلى السجن، ثم خرج منه كما كان.
استطاع الأسرى الفلسطينيون، بعد العديد من الإضرابات، انتزاع حقهم في إتمام مرحلة التعليم الثانوي (التوجيهي)، وفقاً للنظام التعليمي المعتمد من وزارة التربية والتعليم خارج السجن، فنجح الآلاف منهم وحصلوا على شهادة الثانوية العامة. كما انتزعوا في أوائل تسعينيات القرن العشرين الحق في التعليم الجامعي، كأحد إنجازات إضراب الأسرى المفتوح عن الطعام في أيلول/ سبتمبر1992، الذي شمل كافة السجون، واستمر تسعة عشر يوماً، إذ سُمح لهم بالانتساب عبر المراسلة، ولكن فقط إلى الجامعة العبرية المفتوحة في إسرائيل، ضمن شروط صعبة ورسوم مادية عالية كانت تتحمل نفقاتها هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين (وزارة الأسرى سابقاً). وعلى الرغم من كل ما كانت تضعه إدارة السجون من عراقيل أمام ذلك، فإن الأسرى، وبإصرار كبير، التحقوا بالجامعة العبرية، وأتقنوا اللغة العبرية، وحصلوا على شهادات جامعية متقدمة في التخصصات المختلفة. بل إن بعضهم واصل تعليمه العالي، فحصل على شهادة الماجستير. مع العلم بأن إدارة السجون الإسرائيلية لم تسمح لهم حتى الآن بالانتساب إلى الجامعات الفلسطينية، أو العربية، أو الأجنبية. كما لم تسمح لمن اعتُقل من طلاب الجامعات والدراسات العليا في الجامعات العربية والفلسطينية، باستكمال متطلبات التخرج.
هذا بخصوص التعليم في المراحل العليا، أما في المراحل الدنيا فلم تسمح لهم سلطة الاحتلال باستكمالها حتى الآن. فكثيرون من الطلاب الفلسطينيين الذين اعتُقلوا وهم في سنوات التعليم الابتدائي والأساسي، والأطفال دون سن الثامنة عشرة، حُرموا من مواصلة تعليمهم، وهو ما أفقدهم سنوات دراسية كانت ستغير مسيرة حياتهم بعد التحرر، ومنهم مَن فقد مستقبله التعليمي وحلمه بأن يصبح مدرّساً، أو طبيباً، أو مهندساً.
وعلى الرغم من الظروف القاسية والمضايقات المريرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فإن الأسرى نجحوا، بإصرارهم وتضحياتهم ونضالهم المستمر، بالتدريج وبشكل تراكمي، في تحويل السجون والمعتقلات الإسرائيلية من محنة إلى منحة يُستفاد منها، ومن مدافن للرجال والطاقات وأمكنة مظلمة، إلى قلاع ثورية مشرقة، وجعلوا من سجونهم مكاناً للقراءة والتعلم والتثقيف الذاتي والجماعي، ومدارس وجامعات فكرية متعددة ومتنوعة، خرّجت أجيالاً متعاقبة من المتعلمين والمثقفين وحفَظة القرآن والمبدعين والفنانين، الذين أجادوا بكتاباتهم ودراساتهم وأبحاثهم في مجالات شتى، بحيث رأينا منهم فيما بعد أفواجاً من الكتَّاب والشعراء الذين أبدعوا في قصائدهم وأشعارهم، وشكلوا ظاهرة عنوانها "أدب المعتقلات". بينما تمكن مئات آخرون من إتقان عدة لغات، وبصورة خاصة الإنكليزية والعبرية، ومن الأسرى مَن أجاد الاثنتين وأكثر، مستفيدين من الكفاءات الموجودة بين الأسرى، ومما هو مسموح إدخاله من كتب وصحف عبرية وإنكليزية.
لقد خرّجت السجون الإسرائيلية الكثير من المناضلين الفلسطينيين الأشاوس والمقاومين الأشداء، الذين كانوا جنوداً للوطن ووقوداً للثورة وعماداً أساسياً للانتفاضتين. كما خرّجت القادة السياسيين الأفذاذ الذين كانت لهم أدوارٌ كبيرة ولافتة ومؤثرة في قيادة الجماهير الفلسطينية. بالإضافة إلى مئات القادة من ذوي الخبرة والكفاءة. وبذا، فقد شكَّلت السجون رافداً مهماً وأساسياً للثورة وبناء الوطن والدولة. ولم يكن لكل هذا أن يتحقق لولا الإرادة والعزيمة التي تحلى بها الأسرى، ولولا الخطوات النضالية التي خاضوها، والإضرابات عن الطعام والتضحيات الجسام التي قدموها.
وفي إثر أسر الجندي الإسرائيلي شاليط في منتصف سنة 2006 من جانب المقاومة الفلسطينية في غزة، شنت سلطات الاحتلال هجمة شرسة ضد الأسرى والمعتقلين، انتقاماً منهم وتضييقاً عليهم أكثر فأكثر، واستخدمتهم ورقة ضغط ومساومة، فأقرّت عدة قوانين تخدم سياستها، واتخذت إجراءات قمعية كثيرة، تراجعت بفعلها عن كثير مما كان مسموحاً به للأسرى من قبل، فعادت إلى حرمانهم من التعليم بشكل كامل، ووضعت عراقيل جديدة أمام المسيرة الثقافية للأسرى، وصادرت أغلبية المطبوعات والنشرات، كما لجأت إلى عزل قيادات الأسرى وذوي الخبرة والكفاءات العلمية منهم، بعيداً عن الآخرين.
وعلى الرغم من انتهاء قضية شاليط وعودته إلى أهله في إطار صفقة تبادُل الأسرى في 18تشرين الأول/أكتوبر2011، فإن تلك الإجراءات والقوانين الاستثنائية التي أقرّتها دولة الاحتلال تحولت إلى واقع جديد ودائم، فظلت سارية المفعول. ولا تزال إدارة السجون تحرم الأسرى التعليم بمراحله المختلفة، وتمنعهم من التقدم إلى امتحانات الثانوية العامة. كما منعت مرة أُخرى الالتحاق بالجامعة العبرية، ووضعت عراقيل إضافية أمام إدخال الكتب والكراسات والصحف والمجلات. ومنعت الاجتماعات وإلقاء الخطب في ساحة السجن "الفورة"، وإن سمحت بها أحياناً، اشترطت قراءة الخطبة مسبقاً، بدعوى التأكد من خلوها من التحريض على الاحتلال. بينما حجبت عن الأسرى الأغلبية العظمى من القنوات الفضائية، باستثناء عدد محدود من القنوات لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة.
إن الإجراءات الإسرائيلية ومضايقات إدارة السجون واشتداد هجمتها على الأسرى خلال الأعوام القليلة الماضية، أثّرت سلباً، ومن دون شك، في الأوضاع التعليمية والثقافية داخل السجون والمعتقلات، لكنها لم توقفها، ولن يسمح الأسرى بوقفها، أو إعادة عقارب الزمن إلى الوراء سنوات طويلة. وفي هذا السبيل قدم الأسرى إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية، التماساً قانونياً للسماح لهم بمواصلة التعليم في الجامعات، فجاء قرارها بتاريخ 25 كانون الأول/ديسمبر 2012، مؤكداً حرمانهم من التعليم، في توافُق تام مع قرارات السلطة السياسية، الأمر الذي يؤكد بالفعل ما قيل دائماً عن عدم نزاهة القضاء الإسرائيلي في التعامل مع الفلسطينيين. لكن إصرار الأسرى، وبدعم لا محدود من هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية، وتعاوُن تام من وزارة التربية والتعليم العالي، دفعهم إلى ابتداع آليات تتخطى العقـبات الإسرائيلية، وبما ينسجم مع النظام التعليمي المعتمد في فلسطين، واستطاعوا إيجاد برنامج تعليمي خاص بهم ينسجم مع النظام التعليمي المعتمد في فلسطين، وبدأ في العام الدراسي 2014-2015، وتمكن بموجبه أكثر من 5000 أسير/ة من تقديم امتحانات الثانوية العامة (التوجيهي) في 11 قاعة اختبار في سجون ومعتقلات إسرائيلية مختلفة توفرت فيها الشروط الموضوعة، وأن قرابة 70% من المتقدمين حالفهم التوفيق وتمكنوا من اجتياز الامتحانات بنجاح، وحصلوا على شهادة الثانوية العامة. وكانت كالتالي:
إن عدد المتقدمين لامتحان الثانوية العامة (التوجيهي) من الأسرى خلال العام الدراسي 2014-2015 تجاوز الـ 900 أسير، وأن نسبة النجاح كانت 69.13%.[1] بينما بلغ عدد المتقدّمين إلى الامتحان 1026 أسيراً خلال سنة 2016، وأن 706 أسرى منهم اجتازوا الامتحانات بنجاح. وفي سنة 2017 تقدم 837 أسيراً، فنجح منهم 583 أسيراً. وفي سنة 2018 تقدم 858 أسيراً، وتخرّج 565 أسيراً بنجاح. أما في سنة 2019، فبلغ عدد المتقدمين إلى امتحان التوجيهي 748 أسيراً، تخرّج منهم 410 أسرى بنجاح. وفي سنة 2020 تقدّم إلى الامتحان 461 أسيراً ممن طُبّقت عليهم الشروط والمعايير، تخرّج منهم 400 أسير بنجاح. وفي سنة 2021 بلغ عدد الأسرى الذين انطبقت عليهم الشروط 486 أسيراً،[2] بينما كانت وزارة التربية والتعليم أعلنت في 9 تشرين الثاني/نوفمبر2021 أن 451 أسيراً، موزعين على 10 معتقلات، حالفهم الحظ في النجاح هذا العام وحصلوا على شهادة (التوجيهي).[3] أما العام الحالي 2022، فقد سجل نحو 353 أسيراً، وما زالت التحضيرات مستمرة بانتظار الظرف المناسب لتقديم الامتحانات، نظراً إلى صعوبة الأمور وتعقيدات الظروف، وفقاً لهيئة شؤون الأسرى.
وفي سياق متصل، تمكن ما يزيد عن 500 أسير ومعتقل فلسطيني - بدعم من هيئة شؤون الأسرى والمحررين ووزارة التربية والتعليم العالي وتعاوُن من بعض الجامعات الفلسطينية- من إتمام متطلبات التخرّج من الجامعات الفلسطينية والحصول على شهادة البكالوريوس، أو نيل درجة الماجستير خلال الأعوام الأخيرة. بينما لا يزال هناك المئات من الأسرى والمعتقلين ملتحقين بالجامعات الفلسطينية؛ ووفقاً لآخر المعطيات، فقد بلغ عدد الأسرى الذين يواصلون تعليمهم بعدة تخصصات عبر جامعة القدس أبو ديس حتى نهاية الفصل الأول من العام الدراسي 2021 والملتحقين ببرنامج البكالوريوس 113 أسيراً، وعدد الأسرى الملتحقين ببرامج البكالوريوس عبر جامعة القدس المفتوحة 564 أسيراً. وبالنسبة إلى برنامج الماجستير عبر جامعة القدس أبو ديس، فقد بلغ عدد الملتحقين من الأسرى 49 أسيراً، وعدد الملتحقين عبر جامعة فلسطين في قطاع غزة 44 أسيراً.[4]
في الختام، إن من حق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين مواصلة تعليمهم، الأساسي والثانوي والجامعي، وممارسة أنشطتهم، الثقافية والذهنية والتعليمية والدينية، وفقاً للقانون الدولي، بينما صادر السجّان الإسرائيلي هذا الحق، سعياً لعزلهم وتجهيلهم، ولأن الثقافة تشكل أحد شرايين الحياة الروحية، فقد خاض الأسرى نضالاً طويلاً من أجل انتزاع حقهم هذا، وهو ما دفعهم–وبإصرار كبير- إلى البحث عن بدائل، فأوجدوا نظاماً تعليمياً يمكّنهم من مواصلة تعليمهم، وهنا من الأهمية بمكان التأكيد أن العملية التعليمية داخل السجون، بمراحلها المختلفة، الثانوية العامة والبكالوريوس والماجستير، صعبة ومعقدة، وتتم وفقاً للنظام التعليمي المعتمد في فلسطين، وحيثما تتوفر الشروط المطلوبة واللجان التعليمية المؤهلة لنجاح سير العملية التعليمية.