الكاتب: ناصر دمج
الشباب هم درة تاج الشعوب، وذخيرة الأمم الاستراتيجية، الذين إذا ما صلح أمرهم صلح أمر المجتمع كله، وإذا اضطربت أحوالهم ومالت على غير ميله، اضطرب المجتمع كله؛ وفقد بوصله تقدمه في الاتجاه الصحيح، لأنهم يشكلون العمود الذي يرتكز عليه مجتمعهم المحيط، لقدرتهم على تحديد مستقبله وتقرير مصيره، لهذا أولت الحكومات الرشيدة على مدار التاريخ، فئة الشباب بدءاً من طفولتهم إلى مراهقتهم وصولاً إلى شيخوتهم الاهتمام الذي يستحقونه.
لما لدورهم من أثر عظيم في تقدم المجتمعات ونهوضها، عبر التجديد والابتكار والتطوير، وهو جهد يسهم في تعميق أنماط الحماية للمجتمع، ورفع قدرته على التصدي للمشكلات الداخلية، أو التي تهدد سلامته من الخارج، لهذا فإن الاستثمار فيهم يصب في مراكمة المخزون النقي للموارد البشرية المتمتعة بالصحة والعافية والتعليم المناسب.
الدولة كمربي أول وراعي لنشأة الفتية والشباب
هذا لا يعني، بأن الناشئة والأجيال الجديدة من الشباب والشابات، الذين يشكلون نصف سكان كوكبنا، يعرفون ما هو المطلوب منهم لوحدهم، وتحديد ما عليهم القيام به تجاه وطنهم لوحدهم، لأن هناك من يعرف ويتحمل مسؤلية التعريف والتبصير بالوظائف والمسؤوليات والمهام، وهي الدولة، التي عليها أن تحدد للشباب والطلاب المسارات التي عليهم أن يسلكوها، وتوظف طاقاتهم الكامنة لخدمة النهضة والتغيير والاصلاح.
فهي مطالبة بتوفير التعليم الأساسي لهم، والاهتمام بصحتهم ورعايتهم تربوياً ودمجهم في سوق العمل بعد تأهيلهم أكاديميا ومهنياً، لأنهم يمثّلون نصف القوى العاملة تقريباً لأي مجتمع، ولديهم الطاقة الكاملة للعب دور الرادع للخلافات الداخلية وكبح جماحها، سيما خلال الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنزاعات المجتمعية، والحفاظ على السلم الأهلي وضبط ايقاعه.
وقد سبق للخليفة الراشدي "عمر بن الخطاب"، أن حدد الخطوط العريضة لمسؤولية الدولة في صناعة المواطن الصالح، مخاطبا أحد ولاته قبل مباشرة عمله الجديد قائلاً: "ماذا تفعل إذا جاءك سارق؟ قال: أقطع يده. قال عمر: وإذن، فإن جاءني منهم جائع أو عاطل، فسوف يقطع عمر يدك. إن الله قد استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ونستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها؛ يا هذا إن الله خلق الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد في طاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية" (المصدر – الإمام محمد الغزالي ـ ظلام من الغرب، ص189، وعز الدين التميمي ـ العمل في الإسلام، ص5، وطه عبد الباقي ـ دولة القرآن، ص88)
يفهم من ذلك، إنه إذا تراخت الدولة في واجباتها تجاه الشباب، عليها أن تتوقع منهم ما لا تحبه وما تكرهه بالتحديد، لأن طبيعة الشباب تتسم بالشجاعة والتهور والديناميكية والثقة الكبيرة بالنفس؛ وهي خصال مكونة للمخيال الجامح لأي شاب وشابة، أملاً بصناعة مستقبل أكثر سمواً وتطوراً من ماضي الأباء والأجداد.
أسباب القصور الذي يعتري دور الشباب
من نافلة القول: التذكير بأن زملاء الدراسة والحارة والشارع بشكل عام، يسهمون في ترك أثر كبير وحاسم، في مسلكية وأنماط سلوك المراهقين، أكثر بمقدار الضعفين، من الأثر الذي يتركانه (الأب والم)، في المسلكية نفسها، سواء كان ذلك الأثر حميداً أو خبيثاً.
فكثير ما نسمع في مجالسنا، من كبار السن (رجال ونساء)، ما كنا هيك! ما تربينا على هيك! هاي قيم دخيله على شبابنا ومجتمعنا! شبابنا ما كانوا هيك ؟ وهذه الأسئلة الاستنكارية في منتهي الأهمية، لأنها تقدم لنا وصفاً إجمالياً لما وصلت إليه أحوال الشباب والشابات في المجتمع الفلسطيني، عبر تسليط الضوء على الفروق الجوهرية بين ما تظهره الأجيال الآن، في مسلكياتها داخل المدرسة والشارع والجامعة، وبين ما يتفاخر به جيل الأباء والأجداد، من قيم ومناقب ساعدت المجتمع الفلسطيني المقاوم على تخطي الصعاب وعبور المحن بمزيد من التماسك المجتمعي والوطني.
وعند البحث عن إجابات للأسئلة أعلاه، علينا معرفة مواصفات ومزايا الدفيئة الاجتماعية التي نشأ في ظلها الجيلين الأخيرين 1994 – 2007م و 2008م 2021م، حيث استبدلت قيم الأباء، بقيم بلورتها الطبيعة الوجودية للنظام الرأسمالي الفلسطيني الجديد، وهو ما يمكن اعتباره أكبر عملية انسلاخ في التاريخ لحركة ثورية عن ميراثها النضالي والقيمي، حيث أن الثورة التي جالت الشتات والمنافي طلباً للوطن، أسست نظاماً رأسماليا من صميم نظام العولمة، ويخضع بالكامل لسيطرة العدو القديم الذي كانت تحاربه، وهذا النظام بشكل أو بأخر تضمنت نظم عمله وعقيدة وجوده، نوعاً من أنواع الاستنكار المشين لماضيه، بدلالة الرغبة الجامحة لبعض رموزه بالتخلص من الميراث الثوري لهم، الذي أخذوا ينظرون إليه كدبرة في الظهر جديرة بالاستئصال.
ما هو الانعكاس الاجتماعي لهذا المزيج من أنظمة الحكم ؟
إنتاج مجتمع مضطرب، وبلا أجندة أو أولويات وطنية، كانعكاس فض وغير رحيم لمتاهة النظام السياسي في تحديد هويته الوظيفية، وضمن أي أجندة تعمل تلك الوظيفة؛ ولصالح أية أهداف، في ضوء التحاقها بالمهام الوظيفية للجيش الإسرائيلي، وتحولها إلى كيان أمني يقدم خدمات بالأجرة لصالح المحتل الإسرائيلي، وتسببها بانفضاض عُرى التحالف العربي والإسلامي المناهضِ لإسرائيل، لأنها شرعت مساعي الاتصال والتعاون العربي الإسرائيلي، بعد أن فككت الثورة، وبدّدت صلابة الكتلة الحيوية الفلسطينية (الأرض والسكان) ولم تبني الدولة، فهي تحكم الناس وهي في غاية الإلتباس الوجداني، المجسد بعدم معرفتها أي طريق تناسبها، مواصلة القتال ضد المحتل أم معانقته؟، لهذا فإنه ليس لديها برنامج سياسي واضح المعالم للتحرير أو البناء.
لهذا حاول ويحاول هذا النظام، تعبئة الفراغ الفكري الذي نشأ عن حالة التحول من المعاداة الشديدة للمحتل الإسرائيلي، إلى التحالف معه، بمجموعة لا حصر لها من عمليات التوظيف للناس لضمان ولاءهم، لدرجة أن الرئيس "ياسر عرفات" كان يوزع راتب الجندي من قوى الأمن الوطني وكان بحدود 1000 دولار، على ثلاثة جنود، لتشغيل أكبر قدر من الشباب والشابات.
ففقد المجتمع الفلسطيني على طورين من التبريد سخونته الثورية، وتلاشى مستوى عدائه للمحتل الإسرائيلي، بعد أن جندت السلطة الفلسطينية نفسها، لتطبيع علاقة العرب بإسرائيل، لكن الخذلان الذي تعرضت له، بعد أن تفوق العرب عليها في سباق الوصول إلى تل أبيب، أفقدها القليل الذي فازت به من سلامها الخاسر مع (إسرائيل).
بعد أن حول المجتمع الفلسطيني لماكينة استهلاك رأسمالية معولمة، يسعى أفراده لتأمين ما يلزمهم من موارد للإنفاق على شكلهم وهيئتهم الوظيفية الجديدة، سواء رجال الأمن أو الموظفين، أو الوزراء ومرافقيهم، وكل من له صلة بخدمتهم، كالبنوك ومؤسسات الإقراض وشركات العقارات والوكالات التجارية والاستثمارية، اللواتي اغرقن الأسر الفلسطينة بقروض لا تسدد أبداً.
الثمن الاجتماعي للفشل السياسي
الفشل السياسي، له ثمن اجتماعي مروع، قوامه دفع أفراد المجتمع على اختلاف طبقاتهم للبحث عن الخلاص الفردي مع الاحتلال، الذي لم يتأخر عن تفكيك حلقات السلسة الفلسطينية المحطومة، بعد أن وسع نطاق اتصالاته مع رواد المجتمع الفلسطيني وعناوينه التجارية والعشائرية، وفئات مستقلة أخرى كالعمال وتصاريحهم، التجار وتسهيلاتهم، المزارعون ومطالبهم، تصاريح البناء وما تتطلبه من اتصالات مع رجال الإدارة المدنية، العمال المهرة والفنيين والتسهيلات التي ستقدم لهم لتهجيرهم من سوق العمل الفلسطيني.
هذا يعني
بأن دولة الاحتلال الإسرائيلي، هي من يقف وراء كل مشكلة يعاني منها أي فلسطيني أينما كان، نظراً لإنتاجية سياساتها المستهدفة للصمود الفلسطيني، بما في ذلك صرف انتباه الشباب والشابات عن المقاومة، واستبدالها بثقافة استهلاكية متوحشة، ومنفلة من عقالها الأخلاقي، همها الوحيد، تأمين غذاء وكساء أفراد الأسر، وتسديد الفواتير وأقساط البنوك والشركات، وذلك سعياً من أي مستهلك لمجاراة جاره المستهلك الذي يفوقه شراهة، ويحوز أكبر قدر من مسليات الحياة وملطفاتها، كالشقة الجديدة والسيارة الفارهة، والسفر خارج الوطن، وخلاف ذلك من بنود تستحق الاهتمام والصرف من وجهة المستهلكين الفلسطينيين.
مضاف لذلك، الأثر العميق والحاسم الذي تركته وسائل التواصل الاجتماعي، في سلوك الناس، سيما الشباب عبر ملايين التطبيقات المبددة للوقت والمبلدة للمشاعر النقية والخالية من الانحراف المفرط، لأنها ساهمت بشيوع قيم وأنماط سلوك ومفاهيم ومفردات ومصطلحات ومسميات لم تكن معروفة من قبل، حلت محل القيم الأصلية التي توارثتها الأجيال الفلسطينية المتعاقبة، فأصبحنا على واقع غريب يتم فيه المجاهرة بالرذيلة والتبشير بها، والدعوة لإباحة وإتاحة كل ما يثري الفسق والفجور وينميانه.
حيث حدثيني صديق لي قبل يومين، وهو مدير مدرسة اعدادية في محافظة جنين عن شكاوى تلقاها من غير طالب، عن زملاء لهم بأن هواتفهم النقالة تحتوي على مقاطع فيديو وأفلام إباحية، فأخبر مدير المدرسة صديق له في أحد الأجهزة الأمنية، وقال: له سأقوم بفحص هذا الأمر بمتابعتكم، لأتأكد بنفسي من صحة تلك البلاغات التي تردني من الطلاب؛ فجمع حوالي 100 جهاز تلفون، وفحصها واحد واحد بمساعدة سكرتير المدرسة، فوجد 3 منها فقط خالية من ما ذكر، فأخبر جهات الاختصاص بما توصل اليه.
وهذه عينة توضح لنا ميول الناشئة والشباب من أبناء شعبنا، وكيف تمكن المؤثرون الخارجيون من حرف اهتماماتهم، وهذه مشكلة من المشكلات التي تتوقف عن التعاظم، لأن لها تبعات مدمرة لا يتسع المقام هنا لعرضها.
لكن أقسام الشرطة والمباحث الجنائية في فلسطين، سجلت مئات الوقائع الجرمية المتعلقة بهذا النوع من الانحرافات الاجتماعية الآخذة في التفشي، وآخرها الرجل الذي اغتصب ابنه أخيه في غزة، رغم أن عمرها لا يزيد عن خمسة أعوام، وحكم عليه بالموت رمياً بالرصاص.
مضاف لذلك، الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الأمنية المتعددة، التي تتربص بالشباب في كل زاوية وميدان، وهي قادرة على تتبع أثر برامجها بشتى الطرق ومنها التجسس الإلكتروني على الهواتف والحواسيب، كتطبيق بجاسوس Pegasus وغيره من التطبيقات الذكية التي لم يكشف أمرها بعد، وكذا خلايا العملاء المكلفة بإسقاط الشباب والشابات وصرف اهتماماتهم الحياتية، ما سرع في قلب اهتماماتهم رأساً على عقب، على حساب الاهتمام بالواجبات الوطنية وحتى التعليمية.
ويندرج تحت هذا الباب، ما تتعرض له العاملات الفلسطينيات في المستعمرات الإسرائيلية من انتهاكات جسيمة تصل إلى حد الاغتصاب، حيث استمعت شخصياً لإفادة مجموعة من العاملات الفلسطينيات في مستعمرات الغور تعرضن للتحرش والاغتصاب، حيث أدلين بشاهدات مشفوعة بالقسم أمام رئيس بعثة تقصي الحقائق الدولية "فرانك هغمان – Frank Hagemann" بتاريخ 2 آذار 2020م، وبينت االشاهدات بأن العاملات الفلسطينيات، وجلهن من جيل الشباب يتعرضن لمضايقات شتى، ومنها التحرش والاغتصاب، وتجدر الإشارة هنا إلى أن 35000 عامل وعاملة، جلهم من فئة الشباب، يعملون في المستعمرات الإسرائيلية، وذلك بسبب الميل المتسارع لديهم لجني المال؛ وعدم هدر المزيد من الوقت بانتظار فرصة عمل لا تأتي من طرف المشغلين الفلسطينيين، وجزء عظيم من أولئك (العمال الشباب) من خريجي الجامعات الفلسطينية، أو ممن ما زالوا على مقاعد الدراسة؛ حيث يجدوا أنفسهم مجبرين على العمل في المستعمرات، وتلعب الأجور الإسرائيلية العالية والمغريات الكثيرة، دوراً حاسماً في جذبهم للعمل.
فنجد بين العمال، طلاب وطالبات جامعات، قرروا العمل في العطلة الصيفية، وطلاب وطالبات مدارس يعملون يومي (الجمعة والسبت)، وطيلة عطلهم المدرسية، وهنا يكمن الخطر الأعظم، حيث ينقل هذا (الطالب/العامل) مشاهداته وما تشربه من ثقافة ومعرفة جديدة لزملاءه في المدرسة، مضاف لذلك أن جزء من العمال من حملة الشهادات الجامعية، لكنهم لجؤا للعمل في المستعمرات بعد يؤسوا من الفوز بأي فرصة عمل في سوق العمل الفلسطيني.
العمل في (إسرائيل) أحد منابع الانحطاط العام
ثمة انهيار كبير في المجتمع الفلسطيني، لكن مسكوت عليه من قبل الأجهزة الأمنية والمستوى السياسي، لفرط عجزهم عن امتلاك البديل اللازم لوقف العمل في المستعمرات، بكل ما يتخلله من تدمير للشباب الفلسطيني، وفك ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاسرائيلي، وهو أمر له انعكاساته الاجتماعية الحاسمة ليس أقلها تبدل قيم المجتمع وتحول أنماط سلوكه، بقوة دفع اقتصادية جبارة، تحتاج لخطة إنقاذ وطنية ذات قاعدة اقتصادية واجتماعية متماسكة وقادرة على الصمود.
ويعني أيضاً !
بأن المجتمع الفلسطيني سيكون عرضة، لانهيارات كبيرة، تمس صميم قيمه التي شكلت على مدار القرون السابقة، ما يشبه المادة اللاصقة والجامعة لفئات وطبقات وشرائح شعبنا؛ وهو ما يستدل على وجوده من خلال المشكلات التي تنشب بين الناس في كافة المحافظات تقريباً، ومنها المشكلات العائلية المتفجرة تباعاً في غير محافظة من محافظات الوطن.
المطلوب
طلاب الجامعات، لمن لا يذكر، هم الذين قادوا حركة المقاومة الشعبية والمسلحة، وتحولوا في أطوار عديدة من زمن الكفاح النقي لرافعات جبارة للمجتمع، ولولاهم لما عرف شعبنا أي شىء عن منظمة التحرير الفلسطينية، فعندما كان يقتتل الناس أو يشجر بينهم أي شجار، كانوا يفرون إلى الجامعات، قلاع منظمة التحرير الفلسطينية، طلباً للحلل الذي كان يقبل به الصغير والكبير.
أما الشجار بين رفاق الدرب، فكان ضرباً من ضروب العبث بوحدة الصف، فكانت الشجارات محرمة كحرمة الدم، إلا ما ندر، لكنها لم تصبح ذات يوم ظاهرة تشغل الناس، وتصرفهم عن شاغلهم الرئيس ألا وهو الاحتلال.
وهذه دعوة لطلاب الجامعات لاقتفاء أثر الرواد المؤسسين، لحركات الشبية الطلابية وجبهات اليسار على اختلافها وتعددها، لتمنحوا أنفسكم فرصة المشاركة المشرفة في إنقاذ الوطن من الوقوع في حفرة الظلال الاجتماعي، التي ينوي المحتل دفننا داخلها، والختم على قبورنا بعدها، بختم لقد تم تسوية الأمر وانتهت القضية، وعلى الأجهزة الأمنية أن تجد طريقة ما، لتتبع أثر عمليات الاستهداف لشبابنا وشاباتنا ومحاولات تحييد الأجيال وإخراجها من ساحة الاشتباك.