الكاتب:
د. محمود الفطافطة
خلال البحث عن إجابة لسؤال: هل نعيش في عالم "الإنسان التقني"؟ يتبين وجود اتجاهين متناقضين:الأول يرى أن التقنية هي المحيط الذي يسبح فيه الإنسان المعاصر، والماء الذي يستحم فيه، والوسط الذي يترعرع به. ففي عالم التقنية، الإنسان لا خيار له ولا مهرب له منه،ففيه تشبع الرغبات وتروى الحاجات، بل يمكن القول إن الحاجة تولد لأن تلبيتها تكون ممكنة تقنيا، ويجب ألانتصور أن الحاجات توجد قبل التقنية بل التقنية هي التي تولد الرغبات وتجعل إشباعها ممكناً. فصناعة الترفيه مثلاً تخلق الحاجة إلى الاستمتاع.
هذا الاتجاه مثل نقيضه الآخر لا يتحدث عن موقع الإنسان في الإطار التقني إلا ويربطه بمسألة " الحرية التقنية "، طارحا سؤالا مؤداه: هل ثمة علاقة بين التقنية والحرية؟ وهل أمام الإنسان المعاصر مهرب من التقنية إلى الحرية؟ أصحاب هذا التوجه يؤكدون أنه لا وجود للحرية في العالم التقني، لأن الاختيار بين إمكانات متعددة لا يعتبر حرية، فالمرء ليس حراً لمجرد الاختيار بين آلاف الأطباق، بينما يمكن أن يكون حراً حتى لو لم يخير سوى في طبق واحد. ما يضعه أمامي العالم التقني من اختيار بين شيئين لا يعني إطلاقا أن باستطاعتي ألا أختار أيا منهما، أن أستهلك إما هذا المنتج أو ذاك لا يترك لي حرية أن أرفضهما معا، فلا بد لي أن استهلك في كل الأحوال.
بعض أصحاب هذا الرأي يؤكد أنه لا يمكن الحديث في المجتمعات التقنية المعاصرة عن الحرية بقدر ما يمكن الحديث عن الاستلاب، فالإنسان لا يملك أفعالا بل فقط ردود أفعال وللنظام التقني اليد الطولى فيما يختاره.بعبارة أُخری: لیست اختباراتنا واقعية فقط، بل تحتويعلى ما يضعه المجتمع التقني بين أيدينا. الحديث عن الاستلاب بمفهومه الماركسي يعني اغتراب الإنسان عن ماهيته الإنسانية بسبب انفصاله عما ينتجه بقوة عمله،ويصير تابعا للآلات التي يخترعها بدل أن يجد فيها تحققه الذاتي. ويتجلى استلابه الأساسي في تبعيته للآلات التي يخترعها، ومنها نظم الإعلام والمعلومات التي تأتي الإنترنت على رأسها. في مقابل هذا الرأي، نجد رأيا متناقضا لا يرى في الإنترنت مجرد آلة سالبة لحرية الإنسان، وإنما يرى فيه مناسبة للتواصل الاجتماعي وفرصة لنسج علاقات، سواءً على شكل صداقات أو اهتمامات، أو هواجس اجتماعية أو بيئية أو سياسية، أو قواسم مشتركة مهنية أو استهلاكية.
أصحاب هذا الرأي يدللون على حجتهم من خلال النجاح المنقطع النظير الذي لقيه " الفيسبوك "، الذي ساهم في تكوين رأي عام عالمي، وإقليمي، وحتى وطني، كما يمكن القول إنه وفر فضاءً وحيزاً عاماً افتراضياً عزز من تداول الرأي والمناقشة. وبين هذا الرأي وذاك نقول: رغم أن الأفراد في مجتمعات الاتصال أصبحوا متحررين من كثير من أشكال الإكراه، إلا أنهم بالمقابل صاروا محاصرين في زواياهم المنعزلة وفقدوا حس الاتصال مع الآخرين، وتعترضهم صعوبات في عقد صلات اجتماعية.
فوسائط الاتصال الجديدة ساهمت في غزارة الاتصال التقني دون أن تسهم في كثافة التواصل المباشر والميداني. إنها نظرية" التفاعلية الانعزالية؛ تفاعل مع الشاشة، وانعزال مع الواقع. إن عالما بلا إكراه وبلا حدود هو بحد ذاته عالم مليء بالإكراهات والقيود، وفي مقدمتها أن الفرد يجد نفسه محاصرا في عزلة قاتلة.
لا حل لهذه العزلة إلا بالتفاعل الواقعي، دون أن نهمش تلك الشاشة شريطة أن نوظفها لذاتنا وقضايانا التنموية والوطنية والإنسانية. إن وسائط التواصل الحديثة صُنعتلكي تخدمنا لا لتقيدنا وتجعل من حياتنا فقيرة التواصل والمشاعر والأحاسيس.. لا يمكن للبشرية أن تتطور بالتقنية وحدها.. إن الحوار المباشر، والتفاعل الميداني، والفعل الحقلي من شأنها أن تقرب القلوب والأحاسيس وتضمن تحقيق التضامن والتعاون والتكافل والتفاهم والتسامح أكثر من الإدمان على جهاز نكون أمامه كالأصنام؛ يمنحنا معلومات وصور دون أن تبلل قلوبنا بواجب التعاطي، وعبق التواصل، وسعادة المشاركة.