الأربعاء: 15/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

عن الفعالية الثقافية (عالم لنا: #حاصر_حصارك)

نشر بتاريخ: 30/08/2022 ( آخر تحديث: 30/08/2022 الساعة: 16:35 )

الكاتب: حيدر عيد

قامت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل, برعاية فعالية ثقافية/فنية تحت عنوان (عالم لنا: حاصر حصارك) من قلب غزة الصامدة، غزة الجريحة، غزة المقاومة.

جاء اختيار عنوان هذه الفعالية ليشمل مقولتين، أو عنوانين,،لرمزين من رموز الثقافة الفلسطينية غسان كنفاني و محمود درويش: عالم لنا: حاصر حصارك.

كان الهدف من الحفل التركيز على العلاقة العضوية بين الثقافة و الفن من ناحية و المقاومة من ناحية أخرى. و علاقة ذلك بتصعيد حملات المقاطعة و زيادة منسوب الوعي بأهمية المقاطعة الأكاديمية و الثقافية و مدى تأثيرها الملموس على منظومة الاضطهاد الصهيوني المركب.

يتناسب الحفل أيضاً مع مرور 15 عاماً على الحصار الإبادي المفروض على قطاع غزة، وما يشمله هذا الحصار من تضييق على العمل الثقافي/الفني الإبداعي، وبالتالي البناء على تعطش المجتمع لهكذا فعاليات. كما يتناسب أيضاً مع مرور 50 عاماً على اغتيال أيقونة الثقافة الفلسطينية غسان كنفاني و ذكرى استشهاد أيقونة الفن الفلسطيني ناجي العلي.

ظاهرتان انتشرتا في الفترة الأخيرة: محاربة الاحتلال لرموز الثقافة الوطنية مع محاولة سرقة التراث الفلسطيني، و في نفس الوقت الهجوم العنيف في شطري الجزء المحتل من فلسطين عام 1967 على أعمال ثقافية بحجة "تعارضها مع عاداتنا وتقاليدنا"، مع جنوح فج نحو احتكار تعريف تلك العادات. هو هجوم حاد يستهدف أيضاً الثقافة الفلسطينية و رموزها البارزة من أعمال موسيقية و حفلات غنائية و مسرحية.

في زمن الهزائم و التراجع الحضاري و غياب المشاريع القومية الكبرى و انحسار المقاومة يبرز الفن الهابط، بل ينتشر كالنار في الهشيم، و يصبح ملاذاً، بالذات للجيل الصاعد الذي عادة ما يشكل القاعدة العريضة للترويج لهذا النوع من"الفن". و الهدف واضح: تغييب و تزييف الوعي الجمعي.

يتحدث المفكر الثوري فرانتز فانون في فصل كامل من كتابه الأشهر "المعذبون على الأرض" عن أهمية الثقافة الوطنية، كجزء من الثقافة الإنسانية، في بناء وعي جمعي و فردي يمهّد للحظات الحسم التحررية. كما تحدث المفكر إدوارد سعيد باسهاب عن العلاقة بين الثقافة و الإمبريالية، و قبله كتب غسان كنفاني عن "أدب المقاومة". و قد فهمت دولة الأبارتهيد الاسرائيلي مدى أهمية الثقافة و الفنون في تعزيز و ترسيخ مكانتها بين الأمم كدولة "ديمقراطية" و "حداثية" "تحترم الفنون و الثقافة" في إطار ديمقراطي غير إقصائي! و لذلك قامت بحملة الهاسبراة الدعائية ووظفت لها الملايين من الدولارات و اعتبرت كل فنان و مثقف إسرائيلي "جندي" في هذه الحملة التي تعمل على تبييض وجهها الملطخ بدماء الأبرياء.

و الحقيقة أن أنجع وسائل التصدي للهاسبراة الاسرائيلية يكون من خلال نشر الفن الفلسطيني، الرقص و الغناء و الرسم و النحت...إلخ

كيف يمكن التعبير عن الهوية الفلسطينية المركبة بدون اللجوء للفن؟ و لهذا السبب تم إقامة الحفل الثقافي.

و لكن لأننا نعيش مرحلة تصحر ثقافي غير مسبوقة فإننا لا يمكن أن نفهم هذه الظاهرة بدون الربط بين التعصب الفكري و التشدّد من ناحية و الضحالة الثقافية من ناحية أخرى.

كل ذلك يأتي في سياق ثقافة سائدة تحتقر الفنون بأشكالها المتعددة وتتهمها "بالخلاعة" و "المجون" فيتم استهداف فعاليات ثقافية فلسطينية في القسم العلماني و الشطر الإسلاموي من مناطق ال67.

إن الفنون، بالذات الغناء، كثيرا ما تكون أداة مقاومة فعالة. من لا يريد أن يفهم ذلك، فليقرأ عن دور ميريام مكيبا (ماما أفريكا) و عبدالله ابراهيم و هيو ماسيكيلا في الترويج للنضال ضد الأبارتهيد و ملاحقتهم و نفيهم نتيجة لذلك.
و لكن لماذا كل هذا الحقد الأعمى على الفن و الثقافة؟ هل فلسطين التي نريد و نستشهد من أجلها أفضل بلا درويش و سعيد و كنفاني و ناجي؟! بلا ثوب فلسطيني و مسرحية و رقصة دبكة و أغاني ريم بنا و جورج قرمز و سناء موسى و ناي البرغوثي و مسرح عشتار و فرقة الفنون الشعبية؟ ما هو العالم بدون بابلو نيرودا و لا ماياكوفسكي، و لا شكسبير، أو توماس هاردي، و لا ناظم حكمت أو لوركا، أو فيرجينيا وولف، أو درويش، أو أم كلثوم و فيروز و الشيخ إمام! عالم بلا موسيقى أوفولوكلور و رقص شعبي؟

أذكر في هذا السياق ما قاله الرئيس الفرنسي شارل ديجول عندما اقترح عليه بعض أعوانه اعتقال سارتر " هل تريدون مني اعتقال فرنسا؟"

لفهم العلاقة بين الثقافة و المقاومة ربما تساعدنا مقولة " ميشيل فوكو " الشهيرة " أينما توجد القوة، توجد المقاومة " على وضع نظرية للمقاومة السياسية وبالتالي الثقافية. وربما يجدر بنا وضمن سياق المقاومة ذكر تعريف الفيلسوف الشهير " فرانتز فانون " لدور المثقف المحلي خلال مرحلة النضال على أنه الذي بعد أن يحاول أن يصهر نفسه في الناس ومع الناس، فهو الذي سوف يهز الناس و يتحول إلى موقظ للشعب وهنا يأتي الأدب المقاوم و الأدب الوطني."

الميراث الأدبي النقدي لأمثال غسان كنفاني و ادوارد سعيد وفرانتز فانون و ستيف بيكو و روزا لوكسمبورج و إيمي سيزيري يجب أن يكون المشعل الذي ينير طريقنا, فالمثقف الديمقراطي ينبغي أن يكون ، كما يطرح ادوارد سعيد، " الشخص الذي لا يمكن تجنيده من قبل الحكومات أو الشركات( الممولين أو المتبرعين) بسهولة، والذي همه الأساسي هو التحدث بلسان أولئك المنسيين تحت الركام" ، وكما يشير الفيلسوف الهنغاري الرائع جورج لوكاش في سياق اخر عن دور المثقف انه "عندما يصل مجتمع المثقف إلى مفترق طرق في درب كفاحه ونضاله من اجل تعريف واضح لهويته، فعلى المثقف أن ينصهر تماما في العملية الاجتماعية السياسية وان يترجل من برجه العاجي."

إن ثقافة المقاومة تصرّ على الحق في طرح التاريخ الفلسطيني كوحدة واحدة، متماسكة و أساسية. كما أنها تعكس وعياً وطنياً و تاريخياً مفاده أن بإمكان الفلسطينيين أن يكونوا عناصر فاعلة للتغيير في حاضرهم ومستقبلهم.

ليس من المستغرب إذاً أن تشمل الفعالية الثقافية المذكورة عدة فقرات تتراوح بين الغناء و الدبكة و الرسم تتخللها رسائل من فنانين و مثقفين عرب و أجانب، الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصرالله, الفنانة اللبنانية أميمة الخليل، و الفلسطينية ناي البرغوثي، و الجنوب أفريقي جيرمي كاروديا، و الشاعر المصري-الكندي إيهاب لُطيّف. كما قامت الرسامة الفلسطينية إبنة مخيم النصيرات للاجئين الفلسطينيين ربا دخان برسم لوحتين، مستخدمة البرق اللامع، لرمزين من رموز الثقافة الفلسطينية الوطنية الكاتب الشهيد غسان كنفاني ورسام الكاريكاتير ناجي العلي. و تم الاختتام بإطلاق عمل فني موسيقي فلسطيني-مصري قام الشاعر إيهاب لُطيّف بكتابة كلماته لغزة المحاصرة و لحنه الفنان الفلسطيني رزق الجوجو.

مثقفونا أقمار لا تغيب، فلسطين الفكرة بدونهم تصبح باهتة، هم من يعطي الامل بمستقبل منفتح على آفاق لا تنتهي، هم الشعلة التي تنير الطريق الطويل نحو الحرية و العدالة و المساواة.