الكاتب: مصطفى بشارات
جاء في المعجم الوسيط: " الرائدُ من يتقدّم القومَ يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث"، وحين قال العرب في العصر الجاهلي " الرائد لا يكذب أهله" كانت أبرز همومهم تأمين الكلأ والماء لماشيتهم في صحراء قاحلة تندر فيها المراعي والمياه، وفي أيامنا هذه، في حالتنا الفلسطينية تحديدا، من واجب "الرائد" - أمام انسداد أي أفق لأي حل سياسي وحتى عسكري - أن يصدق شعبه ويعرفهم بواقع الحال بدل أن يزينه لهم فيجرعهم الأوهام.
حين وقعت الحرب الأخيرة على غزة، أطلقت عليها إسرائيل اسم "الفجر الصادق" ودعتها حركة الجهاد "معركة وحدة الساحات"، وقبلها في حرب عام 2021، وأطلق عليها الاسرائيليون اسم "عملية حارس الأسوار" وأسمتها الفصائل "معركة سيف القدس" – حينها قلت، ولا أزال على موقفي، إن ما حدث لا يعدو كونه جولة من جولات الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي التي تمتد إلى الأيام الأولى لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وهو – ما وقع في هذه الحروب وما قبلها - أقل من حرب وأكبر من تصعيد، هذا ما تقتضيه القراءة الموضوعية التي تقدم الأمور كما هي لا كما يتمناها الكاتب.
مناسبة الحديث يرتبط بالاحصائية التي أوردتها قناة كان العبرية نقلا عن المؤسسة العكسرية الاسرائيلية وتظهر " ارتفاعا كبيرا في العمليات ضد الجيش والمستوطنين في الضفة الغربية مقارنة بالعام الماضي" كما جاء في نص الخبر.
وفي تلخيص لأبرز معطيات هذه الاحصائية دون الخوض بالتفاصيل، سجل 91 هجوما في عام 2021، ومنذ منذ بداية العام الجاري 2022 وقع 150 هجوما، أي بفارق 60 هجوما بين العامين، وسط توقعات المؤسسة العسكرية الاسرائيلية، والكلام على ذمة قناة كان العبرية، بزيادة عدد عمليات إطلاق النار وامتدادها إلى مناطق أطلقت عليها تلك المؤسسة اسم "مناطق الراحة"، قاصدة غور الأردن وجنوب الضفة.
المعطيات الاسرائيلية المشار إليها، كشف النقاب عنها، أو بالتحديد تم نشرها يوم الاثنين الموافق 5 أيلول 2022، أي بعد يوم فقط من إصابة 7 جنود إسرائيليين في إطلاق نار استهدف حافلة عسكرية إسرائيلية في منطقة الأغوار الفلسطينية على الشارع رقم 90، لكن ماذا أوصت وزارة جيش الاحتلال ردا على هذه العملية التي اعتبرتها تصعيدا في الهجمات الفلسطينية؟!
حسب قناة كان فقد أوصت الوزارة بـ " مواصلة الاعتقالات والمداهمات واستهداف الشبان في المدن الفلسطينية" علما أن وزارة جيش الاحتلال الاسرائيلي ذاتها أطلقت بتاريخ 31 آذار 2022 عملية أسمتها "كاسر الأمواج" ردا على مقتل 11 إسرائيليا في عمليات منفصلة نفذها فلسطينيون منذ 22 من نفس الشهر، فماذا كانت النتيجة؟!.
الرد على السؤال الأخير، وهو سؤال استنكاري لا استفهامي، هو الآتي: كل تصعيد إسرائيلي قابلته ردود فعل فلسطينية، تعلو تارة وتخبو تارة أخرى، موجعة مرة وخفيفة الوقع مرة أخرى، لكن التصعيد مستمر، وكل فعل له رد، ليس حسب قواعد قانون نيوتن، بل حسب الامكانات المتوافرة لشعب يرزح تحت الاحتلال غاشم.
لكن، وهذه المرة تدور الــ "لكن" حول الأسباب، هل يمكن لاسرائيل بـ " مواصلة الاعتقالات والمداهمات واستهداف الشبان في المدن الفلسطينية" أن تكبح جماح هذا "التصعيد الفلسطيني" كما يسمونه؟. هل المشكلة تتعلق بـ " ضعف السلطة وانحسار نفوذها في بعض المناطق" حسبما يحللون، أم ناجمة عن " زيادة في نفوذ حركتي حماس والجهاد الاسلامي في الضفة ووجود تعاون بينهما" وفقما يروجون، أم هي نتيجة لـ " تردي أوضاع الفلسطينيين الاقتصادية" وقد تحدثوا عن ذلك كثيرا؟؟؟
في الأسباب التي تروجها لما تسميه "التصعيد الفلسطيني"، وهذا من المفارقات المضحكة/الصارخة، تظهر إسرائيل وكأنها غائبة عن المشهد، أو مراقب من بعيد له وليست اللاعب الأساسي فيه!
بعيدا عن عوامل التأثير والديناميات الداخلية الفلسطينية التي تفعل فعلها بالتأكيد، سلبا أو ايجابا، لا يخفى على أحد الدور التصعيدي لاسرائيل في كل شيء وفق خطة متدحرجة للقضاء على أية فرصة للحل وفق مبدأ "حل الدولتين"، اتفاق الحد الأدني المقبول به فلسطينيا، خطة تسعى في الوقت ذاته لخلط الأوراق الفلسطينية وضمان إضعاف كل الفرقاء الفلسطينيين، وخلال ذلك ومعه، إضعاف المجتمع الفلسطيني، وضرب نسيجه ومناعته، وتذريره، وابقائه مجتمعا ضعيفا، تابعا، وملحقا بالادارة العسكرية الاسرائيلية المسماة "الادارة المدنية الاسرائيلية"!
لذلك هل سيزداد ما يسمونه "التصعيد الفلسطيني"، وهل ستتصاعد وتيرة العمليات الفلسطينية ويتسع نطاقها؟ الجواب نعم، هم يتوقعون ذلك أنفسهم، لكن إلى أي مدى وبأية قوة وبأي شكل، لا أحد يستطيع التوقع، وما سيحكم ذلك لا تنطبق عليه لا قوانين الفيزياء ولا الرياضيات، بل يرتبط ويتوقف على حصول "انفراج حقيقي في الأوضاع"، من جهة، ووجود "أفق" لحل سياسي يأخذ بالاعتبار الحقوق الفلسطينية وقيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة وعاصمتها القدس، دون ذلك لن تنفع كل "الصفعات" التي يمكن أن توجهها إسرائيل للفلسطينيين عبر ما يسمونه "جز العشب". لعلهم يعرفون أو لا يعرفون، وهذا لا يهم، أن العشب كلما تم "جزه" أينع وكبر أكثر، وقد يصبح غابة ربما لا يكون بمقدورهم تحمل التوغل فيها!!.