الكاتب: د.محمود الفطافطة
سألني يوماً زميل وصديق مصري: ماذا تعني فلسطين لك؛ لأجيبه: فلسطين تحمل في وجداني وروحي ــ كباقي أبناء شعبي والأحرار في كل العالم ــــــــ ثالوث: التاريخ، الكرامة، والحرية. فالتاريخ مدين لفلسطين بأنها مزجته بوسطية الجغرافيا، وملتقى الحضارات والقارات، ومنبع الرسالات والنبوات. إنها الأرض التي لا يُعمر فيها ظالم… إنها فلسطين: أرض المنشر والمحشر…أرض الأقصى والمسرى. أرض الرباط والطائفة المنصورة… إنها أرض الخلافة والأنبياء والشهداء ومهد الديانات.
في غيرها تجمع الظالمين بظلمهم ليسفكوا أرواحٌ وأرواح، وعلى أرضها أُطيح برقاب هؤلاء؛ فكثيرهم لفظتهم الأرض في باطنها، وباقيهم هربوا بين متشرد وبائس. فلا مناصٌ للمستعمر إلا الرحيل عن أرضنا أو الاندثار في باطنها مثلما جرى مع كل المستعمرين والغزاة الذين جاؤوا من أقاصي الدنيا ليعيثوا دماراً وهلاكاً بأرض فلسطين وشعبها. فماذا كان مصير كل من الروم والإغريق والفرس والصليبيين والتتار ونابليون والإنكليز والكثير مما سواهم. لقد كان مصيرهم الهزيمة في أرض فلسطين؛ إما فراراً وإما هزيمة وقتلاً وعاراً.
إنها بلد الحرية، التي رغم ما يلاقيه أبنائها من ظلم وقتل وتشريد وسواها إلا أنهم يبدعون، يوماً بعد آخر، في فنون المواجهة والتحدي لمحتلٍ نازي وفاشي يُعتبر أبشع احتلال عرفته البشرية في عصرها الحديث. الحياة بلا حرية لا تعادل حياة، بل مجرد جسدٌ يرتمي هنا، ويمشي هناك. الحرية قدمت أحياناً على العقيدة؛ فبدون حرية لا يمكن لصاحب العقيدة أن يؤدي شعائرها وواجباتها باطمئنان ويسر وسكينة. فالقدس وأقصاها على سبيل المثال، تحت أسر الاحتلال المجرم وأغلاله؛ فلو كانت لدينا حرية لاستطعنا الوصول إليهما والتنفس بعبق حارات مدينة الله، والسجود في ساحات مسرى رسول الله. فلا عبادة ولا سعادة حقة إلا بحرية متحققة.
بالطبع، نفتقد الحرية بسبب هذا المستعمر المجرم، لكن هذه الحرية، كمفردة وأمنية، لا تبرد، أبداً، من رحيق نفوسنا، وقلب ضمائرنا، ووهج ذاكرتنا. نفتقد للحرية، لكننا سنحققها بدمائنا الزكية، وتضحياتنا المجيدة. من أجل تحرير الأرض وحرية أهلها أُريقت الدماء؛ وتشردت أمم إن من أجل الأوطان تحملت الشعوب ألواناً من العذاب. ولكي نكون مخلصين للأرض: منها وبها ولها؛ وإليها، فإننا مطالبون، أينما كنا، أن نحافظ عليها! ومن أجل حريتنا نحتاج إلى العمل من دون مقابل، لأن الوطن فوق كل شيء.
بِلاَدِي هَوَاهَا فِي لِسَانِي وَفِي دَمِي… يُمَجِّدُهَا قَلْبِي وَيَدْعُو لَهَا فَمِي
إنها بلد الكرامة: من أجل فلسطين علينا أن نخلص لها ونواصل العمل لأجلها… فلا كرامة لإنسان إلا في وطنه، ولا وطن لنا إلا فلسطين. الكرامة هي المنجم الذي لا يمكن لوقوده النفاد، مثلما، في المقابل، لا يمكن للمحتل وأزلامه أن ينفذوا منه إلينا. إن الكرامة تتأتى من حب الوطن الذي هو غريزة فطرية في الإنسان، وما من إنسان إلا ويعتز بوطنه؛ لأنه مهد صباه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده.
لذلك كان من حق الوطن علينا أن نحبه وندافع عنه؛ وهذا ما أعلنه نبي العالمين وهو يترك مكة تركًا مؤقتًا؛ ليقول "وَالله إِنَّك لَخَيْرُ أَرضِ اللهِ وَأحَبُّ أرْضِ اللهِ إِلًى اللهِ، وَلَوْلاَ أنِّي أخْرِجْتُ مِنْكِ مَاَ خَرَجْتُ". وصدق حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله عندما قال: "حبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".
كرامتنا هي روحنا، وبدونهما لا وجودٌ لنا أبداً... سنظل نحارب هذا المحتل ونطارده حتى نخلص شعبنا والعالم من شره... لا أمنٌ لنا أو سلام طالما اللص والقاتل بيننا، كما أن العالم سيبقى في "مرجل" الصراع والدم وعدم الاستقرار طالما بقي هذا المحتل قوياً وجاثماً على أرضنا، وطالما، أيضاً، ظل هذا العالم المنافق والمتواطئ يدعم ويساند أحفاد قتلة الأنبياء والمرسلين.
سيبقى هذا الثالوث بوصلتنا نحو التحرر والتمكين. إن العبق التاريخي لفلسطين، والزاخر بمتتالية لا تنتهي من البركة والقداسة والطهارة وقوة الجغرافيا يمنحنا أكسير القوة النفسية والعاطفية لبلدٍ مقدس. أما الحرية التي نتغذى على رحيقها بالشهداء والمقاومة فستبقينا كالوهج الذي لن ينطفئ، وكالبحر الذي لم ولن يجف. أما الكرامة، فهي الوقود الذي يجعل من تاريخنا طاهر، ومن حاضرنا مقاوم، ومن مستقبلنا متحرر، ومن شعبنا حر.