الكاتب: د.سعيد زيداني
الشعور بالحب أو الكراهية أو اللذة أو الألم يختلف في نواحي مهمة عن الشعور بالخوف أو الحسد أو الذل أو الظلم. الشعور من النوع الثاني، وخلافًا للشعور من النوع الأول، يقوم على، أو يفترض، القناعة أو الاعتقاد. فأنت تخاف من أسد الغابة، مثلًا، لأنك متيقن أو تعتقد جازمًا أن وجوده بالقرب منك يشكل خطرًا داهمًا على حياتك. وأنت تحسد فلانًا أو علانًا، مثلًا، لأنك تعتقد أو تظن أنه حاصل على ما يجب أن تكون حاصلًا عليه أنت. وفي المقابل، فإن حبك لهذا المنظر الطبيعي أو ذاك أو لهذه الأغنية أو تلك لا يفترض قناعة أو معتقدا، تمامًا مثل حزنك أو فرحك، وإن كنت تبحث عن سبب أو مسوغ، أو تجد أو تخترع سببًا أو مسوغًا لذلك. والشعور بالعدل أو بالظلم، مثل الشعور بالخوف أو الحسد، وخلافًا للشعور بالحزن أو بالفرح، يفترض قناعة أو معتقدا. علمًا بأن المشاعر التي تقوم على، أو تفترض، معتقدات أو قناعات تتغير إذا تغيرت تلك المعتقدات أو القناعات. فخوفي من الأسد، مثلًا، قد يزول أو يتلاشى إذا عرفت أو أيقنت بأنه مكبل بالسلاسل ولا يشكل، بالتالي، خطرًا علي أو على أحد من المرافقين لي. وبصورة مماثلة، فان شعوري بالذل أو بالظلم يزول أو يتلاشى إذا عرفت أو اعتقدت أو أيقنت بأن حقوقي تحترم وتصان، وبأنني أعامل بصورة لائقة ومحترمة وحسب ما يقتضيه العدل أو الإنصاف أو احترام الذات.
وليس خافيًا على أحدٍ بأن هناك شعورًا بالظلم التاريخي، أو بغياب العدل التاريخي، يصاحب الفلسطيني كظله أينما وجد، وأينما ذهب أو رحل، يصاحبه كظله منذ نكبة ٤٨؛ الفلسطيني الذي عاصر النكبة أو كأن وريثا لها على حد سواء. الفرق بين من عاصر النكبة ومن ورثها قد يكمن في نوع وحدة المعاناة كما بطرق التعامل مع هولها وهول تبعاتها. ولكن الشعور بالظلم يظل وأحدًا ومشتركًا بين المعاصرين والوارثين، بين الباقين في وطنهم واللاجئين في بلدان الشتات، وبين الكبار والصغار، كما بين ميسوري الحال ومعذبي الأرض من النساء والرجال. وهذا الشعور بالظلم التاريخي يقوم، كما ذكرت سابقًا، على افتراض أو اعتقاد راسخ بأن الفلسطينيين كانوا، وما زالوا، ضحايا لعدوان صهيوني شرس وبشع على حقوقهم في الحياة والبقاء في البيت وفي ملكية الأرض وفي السيادة في وطن آباء وأجداد لم تنج حتى مقابرهم وقبورهم فيه من الانتهاك. لست هنا بصدد سرد للتراجيديا الفلسطينية وما تزخر به من معاناة ومن إهانات ومظالم؛ ما انا بصدده هنا هو التالي: كراهية الصهيونىة ومقاومتها، فكرتها ومشروعها ودولتها وأنصارها، نابعتان من هذا الشعور بالظلم، الثقيل والطاغي، والقائم على قناعة مبررة وراسخة بعدوانها واسع النطاق وعميق الأثر على حياة وحقوق الفلسطينيين، أينما وجدوا، سواء داخل حدود فلسطين الانتدابية أو خارجها.
هذا الشعور بالظلم، الثقيل والطاغي، يتغذى بدوره على مشاعر أخرى مشابهة، على راسها الشعور بالمذلة أو بالإهانة. فحين يميز ضدك من قبل الدولة اليهودية لانك فلسطينيي، سواء في الخدمات او المخصصات أو الحريات او ملكية الأرض أو في اللغة أو الرموز الوطنية؛ وحين يميز ضدك لانك فلسطينيي في المطارات ونقاط العبور والحواجز والمحاكم والنوادي والملاعب الرياضية؛ وحين يتم تجريف مقابر وقبور أجدادك لانك فلسطينيي؛ وحين يحرض ضدك ويصرخ في وجهك "الموت للعرب" في المسيرات والمظاهرات الصهيونىة، فالقصد في جميع هذه الحالات وغيرها هو إذلالك وإهانتك، وليس فقط الاعتداء على حقوقك أو الانتقاص منها. والشعور بالإهانة، مثل الشعور بالظلم، وخلافًا للشعور بالحزن أو بالكراهية، يفترض بدوره قناعات أو عقائد مبررة. فأنت تشعر بالإهانة لاعتقادك أن هذا اليهودي الصهيوني أو ذاك يدأب على الحط من قدرك وعلى إبراز استعلائيته أو تكريس فوقيته الإثنية. وعلى ضوء ذلك، فإن "قانون القومية" لصيف عام ٢٠١٨، مثلًا، ينطوي على إهانة فاضحة للفلسطيني مواطن، أو شبه مواطن، دولة إسرائيل، وذلك إضافة إلى الانتقاص من حقوق مواطنته، ودرة تاجها حق تقرير المصير. وما الاعتداء الوحشي على نعش الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة في ساحة المشفى الفرنسي في مدينة القدس العربية يوم ١٤ أيار الماضي إلا مثال صارخ على تلك المعاملة المهينة والمذلة، والتي عرف شباب القدس الفلسطينيون كيف يردون عليها بإصرارهم البطولي على عدم سقوط النعش أو إزالة العلم الذي يسجيه. وما مسيرة الأعلام الصهيونىة يوم ٢٩ أيار الماضي، وما رافقها من شعارات وهتافات عنصرية وخطابات الكراهية، إلا مثال صارخ آخر على تلك المعاملة المهينة. ومقابر الأرقام مثال صارخ آخر. وهناك عدد لا حصر له من الحالات/ الأمثلة على ذلك عبر السنين.
لماذا أقول كل ذلك؟
أقول كل ذلك لأنني أود ترسيخ مبدأين، كل منهما، في اعتقادي، شرط ضروري لأي سلام حقيقي أو لأي مصالحة تاريخية حقيقية في المستقبل بين الشعبين المتصارعين، العربي الفلسطيني واليهودي الصهيوني. هذان المبدآن/ الشرطان هما التاليان:
الأول: ضرورة مخاطبة وتهدئة الشعور بالظلم التاريخي الذي يسكن الفلسطينيين أينما وجدوا، وأينما حطوا أو رحلوا.
الثاني: ضرورة مخاطبة وتهدئة الشعور بالإهانة الذي يصاحب الفلسطينيين أينما وجدوا، وذلك بسبب معاملتهم غير المحترمة أو المهينة أو المذلة من قبل السلطات الصهيونىة/ الإسرائيلية ووكلائها عمومًا، السلطات الأمنية وغير الأمنية على حد سواء.
وبدون مخاطبة وتهدئة كل من هذين الشعورين، الشعور بالظلم والشعور بالإهانة، يظل الكلام عن السلام الحقيقي والمصالحة التاريخية الحقيقية شططًا ولغوًا فارغًا. علمًا بأن مخاطبة وتهدئة الشعور بالظلم تتطلبان دولة ومجتمعًا قائمين على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، صيانتها واحترمها، بينما مخاطبة وتهدئة الشعور بالإهانة تتطلبان دولة ومجتمعًا يحظران تلك القوانين والإجراءات والممارسات العنصرية وخطابات الكراهية، والتي تهدف بمجملها إلى، أو تنطوي على، الحط من قدر وقيمة الإنسان الفلسطيني أو تعمل على تصغيره أو تحقيره أو إذلاله. وما اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة والاعتداء لاحقًا على نعشها إلا دليل طازج على عدم استيفاء أي من هذين الشرطين أو الالتزام بأي من هذين المبدأين.
والمبدآن/ الشرطان المذكوران أعلاه هما، في رأيي، القاعدة الصلبة لأي إتفاق أو مقترح أو تصور جدي وسوي للسلام الحقيقي والمصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين المتصارعين منذ قرن من الزمان وأكثر، أو هكذا يجب أن يكون. بكلمات أخرى، بدون الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، صيانتها واحترامها، وبدون تفكيك نظام الاستعلاء والفوقية اليهودية الذي يكرس دونية الفلسطيني ويدأب على إهانته وإذلاله، سوف يظل باب السلام الحقيقي والمصالحة التاريخية الحقيقية مغلقًا، وسوف يظل الطريق إليه مسدودًا. غني عن القول في هذا الصدد بأن من يحظر رفع العلم الفلسطيني، أو يحتجز جثامين المقاومين الفلسطينيين في الثلاجات، ليس طرفًا مصداقًا أو مؤهلًا لصنع السلام المنشود أو لتحقيق المصالحة التاريخية المنشودة.
والسلام الحقيقي يقوم إذا قام، والمصالحة التاريخية تتم إذا تمت، على أسس رئيسة كالتالية:
السيادة الفلسطينية على جزء منصف من أرض فلسطين الانتدابية (لا يقل مساحة عما أقرته الشرعية الدولية)، أو المشاركة المتساوية في السيادة على فلسطين الانتدابية كلها، فلسطين غرب النهر وشرق البحر.
السيادة الفلسطينية على مدينة القدس العربية، أو المشاركة المتساوية في السيادة على مدينة القدس كلها، شرقها وغربها.
عودة من أراد من اللاجئين والنازحين إلى بلده/وطنه، وتعويضه عن خسائره المادية ومعاناته عبر السنين، وتعويض من اختار العيش خارج الوطن منهم.
تفكيك نظام التمييز العنصري والتفوق العرقي في إسرائيل وما ترتب عليه من قوانين وإجراءات وممارسات ظالمة أو/ ومهينة للفلسطينيين.
احترام وصيانة الحقوق الفردية والوطنية المتساوية للفلسطينيين العرب والإسرائيليين اليهود.
وبدون بناء السلام والمصالحة بين الشعبين المتصارعين على هدي مثل هذه الأسس، لا يتم مخاطبة وتهدئة كل من الشعور بالظلم والشعور بالإهانة لدى الفلسطيني، أينما حط أو رحل. غني عن القول بأن الأسس المذكورة أعلاه هي قواعد وقيم أخلاقية في صلبها وعصبها.
والأسس/ القيم الأخلاقية أعلاه هي أيضًا المقياس والمعيار، في اعتقادي، للمفاضلة بين المقترحات أو التصورات أو المبادرات المطروحة لإيجاد حل دائم ومنصف للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، طويل الأمد وكثير التكاليف المادية والبشرية. هذا، بالطبع، بعد استيفاء شرط القابلية للتطبيق في المستقبل المنظور. علمًا بأن المقترحات/ التصورات/ المبادرات المطروحة تتلخص في ثلاثة أنواع هي التالية (ولكل نوع منها “متحورات”): الدولة الديمقراطية الواحدة، الدولتان المتجاورتان بأمن وسلام، والكونفدرالية (مبادرة "دولتان، وطن واحد"، مثلًا)ً. وهنا أسأل: ما جدوى التلويح بهذا التصور أو هذا المقترح أو ذاك أو بهذه الخطة أو هذه المبادرة أو تلك إذا كان التطبيق في المستقبل المنظور غير وارد أصلًا؟ وفي المقابل، ما جدوى التلويح بهذا التصور أو هذا المقترح أو ذاك أو بهذه الخطة أو هذه المبادرة أو تلك إذا لم تؤخذ الأسس/ القيم الأخلاقية المشار إليها أعلاه بالجدية القصوى؟
وأخيرًا، ربما ليس هناك حل عادل وقابل للتطبيق في المستقبل المنظور للقضية الفلسطينية من جميع جوانبها أو للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من جميع جوانبه. وإذا كان الامر كذلك، كما اميل إلى الاعتقاد، فما علينا الا المناداة او التلويح بذلك الحل الأكثر قابلية للتطبيق والأقرب للعدالة. فإن لم تكن العدالة ذاتها، فلتكن أختها أو بنتها! هذا شريطة أن يخاطب ويهدئ مثل هذا الحل الشعور بالظلم الذي كالظل يرافقنا، وأن يخاطب ويهدئ كذلك الشعور بالإهانة الذي يسكننا، نحن الفلسطينيين، أينما أقمنا وأينما رحلنا. وفي غياب مثل هذا الحل، سوف يظل الجرح الفلسطيني مفتوحًا، وتبعًا لذلك، سوف يظل الصراع قائمًا.