الكاتب: محمد نعيم فرحات
تمثل الصين المعاصرة، جمهورية ودولة وإمبراطورية تجربة من نوع خاص، في القيم والخيارات والقدرات.وبمقدار ما هي حاجة وضرورة لنفسها فهي أيضا كذلك للعالم وأمنه واستقراره وتوازنه.
الصين التي أنجزت في سبعين عاما، معجزات النمو والتصنيع والتحديث وتشيد بنية أساسية على طول وعرض بلاد بحجم قارة، لسكان يناهزون ثلث العالم إلا قليلا، والتشغيل الشامل تقريبا للإمكانيات المادية والبشرية، هي بلد تمثل المسؤولية قيمة أساسية تحكم خياراته ومواقفه في الداخل والخارج.ومع غيرها من الدول كروسيا وكوبا ومصر أيام عبد الناصر والجزائر، قدمت الصين نموذجا في العلاقات الدولية يقوم على قيمة التضامن مع البعض وتحقيق المصالح في كنف الاحترام مع البعض الأخر.
الصين، التي انتهجت في كل صعيد استراتيجيات تمكين ناعمة، بناءة، متراكمة ومجدية، واستولدت مفاهيمها الخاصة التي تحكم استراتيجيتها في الداخل ومع الخارج، وبلورت نمط علاقات يقوم على أساس التعاون وتحقيق المصالح في كنف الاحترام، في مواجهة نمط هيمنة غربي متوحش، يقوم على الاستغلال والاستنفاذ لموارد الآخرين وآمالهم.
تجربة الصين في التمكين، تمثل نموذجا تاريخيا، يشتغل بالذخيرة الحية للأمم المعنية بالتحقق وبالتحكم في المصير، وبالنسبة للعرب على نحو خاص، فإن فهم الصين للتمكين وممارسته ينكل بمفهوم العرب للتمكين وطرائقهم التي سلكوها في هذا السياق، حيث كان تمكينهم عموما إما: استثمار في الفشل والإخفاق من جهة، أو استثمار في الضلال والإرهاب الداخلي والتكفير متنوع الأشكال.
*
حضور متصاعد يلاحظ للصين وحلفائها، في لحظة كونية مركبة، يجري فيها إعادة تشكيل العالم وتوازناته، على نحو تعددي، يحترم استقلال الدول وحقوق التحكم في المصير، بعد عقود من عبث غربي، خرب ما استطاع من العالم، ولوث حياته السياسية والفكرية وترك فيها مخلفات جسيمة.
"الحزام والطريق" كان النموذج الأهم الذي قدمته الصين كتعبير عن رؤيتها وإستراتيجيتها في العلاقات الدولية، نموذج بعيد عن الاستغلال ويقوم على تحقيق المصالح المتبادلة مبني على اهم قيمتين تحتاجهما الحياة الإنسانية والعلاقات السياسية: التعاون والاحترام.
ورغم مختلف التحليلات التي تتناول احتمالات التوتر بين الصين والولايات المتحدة في الصراع القائم بينهما، على الرؤى والقيم والمصالح والنفوذ والدور، إلا أن الواقع وأفق تطوره يشير إلى إمكانية استخدام القوة الخشنة في معالجة قضايا الدور والمكانة، والتاريخ سيواصل أشغاله كالعادة تبعا لعلاقات القوى، فيما الدفاع عن المصالح والرؤيات يتطلب وجود أنياب تُستَخدمُ عند حاجتها.
في هذا السياق ليس من باب الصواب، تقدير توازنات القوة بين الصين وأمريكا بمقارنة المقدرات المسلحة والعدة والعتاد والقدرة على الانتشار فحسب، لان الواقع يفترض الأخذ بمعطيات أخرى مثل الوجاهة الأخلاقية للأهداف وخلفياتها، ومن هو الطرف الذي يقوم موقفه على العدوانية، وكذلك حاجة العالم للاستقرار والتوازن وإعادة انتاج نفسه على أساس هذه القيم، بعد قرون من الخلل الذي انتجته رؤية الغرب للهيمنة والاستباحة والاعتداء على حقوق الأخرين ومصالحهم.
*
في علاقة العالم مع الصين فإن أكثر ما يبعث على اليائس والقنوط السياسي هو دراسة أنماط العلاقات العربية مع الصين والكيفية التي يرون من خلالها معناها وحضورها، حيث لا وجود لملامح سياسة عربية متجانسة بهذا الخصوص كما بغيره.
في منطقة الشرق العربي توجد للصين مصالح واسعة وحاجات مختلفة وروابط متنوعة، إلا أن العرب أو أغلبهم على نحو أدق وفي كل صيغهم: دولا منفردة أو كمجموعة، لم يعثروا على الطريق الملائم لتحقيق مصالح متوازنة مع الصين واستثمار هذه القدرات في سياق متكامل، وبمناسبة الصين يبرهن العرب من جديد على أنهم ملوك الفرص المضيعة بلا منازع.
*
لا يستطيع أحد قراءة مشهد العالم الراهن بدون الإطلالة عليه من منصة الصين، التي لها مع حلفاء وازنين اليد الطويلة في تقرير هويته القادمة وإعادة تركيبة على أسس مختلفة عما هو عليه الحال في عصر الهيمنة الأمريكية الغربية.
في هذه الأونة قد يحتاج العالم عموما والغرب خصوصا، لإعادة استذكار الحس الخاص الذي كان عند الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول عن الصين واو راسيا. وعلى العالم أن يدرب نفسه على الاتجاه ليس شرقا فحسب بل الاتجاه صينا، بعد أن يقطع أوراسيا ويمر بأبواب: الشام واليمن والجزائر والجوار الإيراني في طريقه إلى هناك، وعليه ألا ينسى فلسطين كقضية تلعب دورا حساسا في تحديد معنى السلام والحرب في العالم الراهن.
*كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين.