الكاتب:
وليد القططي
أشادَ المُفكرُ الشهيدُ فتحي الشقاقي – مؤسس حركة الجهادالإسلامي في فلسطين – الذي تأتي ذكرى استشهاده السنوية هذه الأيام، بنظرية (ولاية الفقيه) للإمام الثائر آية الله الخميني، وسجّل شهادته المُشيدة بالنظرية في كتابه الأول الصادر في نهاية سبعينيات القرن العشرين بعنوان: (الخميني.. الحل الإسلامي والبديل) بقوله: "ويقف الإمام الخميني موقفاً إسلامياً وثورياً رائعاً عندما يقف في وجه بعض الشيعة الذين يجلسون في انتظار المهدي ليقيم حكم الإسلام، وليملأ الأرض عدلاً بعد أنْ مُلئت ظلماً وجوراً"، واعتبر الشقاقي ذلك الاجتهاد ثورة في الفكر والفقه، انتجت ثورة في الناس والواقع، كانت مدخلاً جبرياً لإسقاط نظام حكم الشاه الملتزم بالولاء لأمريكا و(إسرائيل)، وإقامة نظام حكم إسلامي ملتزم بدعم فلسطين والمقاومة، وبهذا الموقف الذي التزم به الشقاقي مُبكّراً حسم طريقه وأختارمصيره، متجاوزاً فقه الانتظار إلى فقه الثورة.
تجاوز الشقاقي فقه الانتظار عندما رفض فكرة انتظار قيام (الخلافة الإسلامية) لتقوم بمهمة تحرير فلسطين، كمبرر لتأجيل الجهاد والثورة في فلسطين، وقدّم أطروحته الفكرية التي تربط بين مشروعي الخلافة والتحرير، ومضمونها أنّه بقدر ما نتقدم نحو مشروع الجهاد والثورة لتحرير فلسطين نتقدم باتجاه مشروع الخلافة الإسلامية، بل إنَّ الجهاد والثورة في فلسطين هو طريق إقامة الخلافة الإسلامية، وقال موّضحاً: "رفضنا انتظار قيام الخلافة الإسلامية كي نبدأ بتحرير فلسطين... لا يجوز أنْ نتحجج بعدم قيام تلك الدولة لنؤجل الجهاد من أجل تحرير فلسطين، كما نرى العكس، نرى أنه بقدر ما نتقدم نحو فلسطين وبقدر ما نمارس جهادنا كإسلاميين في فلسطين بقدر ما يتعزز الدور الإسلامي في المنطقة والعالم، ونرى أيضاً بقدر ما تتبنى الحركة الإسلامية قضية فلسطين وتستقطب الناس حول هذه القضية بقدر ما ستقوى هذه الحركات في بلدانها وبقدر ما ستتحقق مشروعيتها".
جاوز الشقاقي فقه الانتظار عندما رفض فكرة انتظار الوحدة ببعديها العربي والإسلامي؛ ليبدأ بعدها مشروع تحرير فلسطين، كمبرر لتأجيل الجهاد والثورة في فلسطين، وقدّم أطروحته الفكرية التي ترى في العلاقة بين الوحدة والتحرير علاقة جدلية تبادلية، فالتقدم باتجاه الوحدة – العربية والإسلامية – يؤدي إلى التقدم باتجاه التحرير، والتقدم باتجاه التحرير يؤدي إلى التقدم باتجاه الوحدة، وقال موّضحاً: "نحن نرى في جهادنا دعوة لاستنهاض الأمة كي تقوم بواجبها، كي تنهض وتتوّحد وتتجه إلى بيت المقدس". فمشروعا الوحدة والتحرير متلازمان ومتوازيان، وهذا ينطبق على الوحدة الوطنية الفلسطينية، والوحدة القومية العربية، ووحدة الأمة الإسلامية، فعندما يعتصم الجميع بحبل الله وقضية فلسطين، وتتجه قبلة جهادهم نحو القدس، وتُشير بوصلة صراعهم إلى الكيان الصهيوني، تتحقق الوحدة ويُنجز التحرير.
تجاوز الشقاقي فقه الانتظار عندما رفض فكرة انتظار تربية الجيل المسلم في (مرحلة الاستضعاف المكية)، ليكون قادراً على الجهاد والثورة لتحرير فلسطين في (مرحلة التمكين المدنية)، كمبرر لتأجيل الجهاد والثورة في فلسطين، وقدّم أطروحته الفكرية ومضمونها (التربية من خلال المواجهة)، فالجهاد والثورة في إطار مشروع المقاومة والتحرير هو أفضل وسيلة لتربية الجيل المسلم وإعداده لتحرير فلسطين، فعملية التحرير وتغيير الواقع تتم بواسطة عملية جدلية تبادلية يتم فيها تغيير ما في النفس بالتربية، وتغيير ما في الواقع بالجهاد، وكلاهما ثورة سواء في النفس أو في الواقع، فالهداية والجهاد متلازمان كما قال تعالى " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"، كما أنَّ الإيمان والفتنة مرتبطان لقوله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"، والفتنة تتحقق بالمواجهة مع الاحتلال والجهاد ضد الكيان، فالبدء بالجهاد والثورة لتحرير فلسطين هو طريق التربية الحقيقية.
تجاوز الشقاقي فقه الانتظار عندما رفض فكرة انتظار وعد الآخرة، لتزول (إسرائيل) من الوجود وتتحرر فلسطين بالقدر الإلهي المخبوء في عالم الغيب، الذي انتظره البعض على رصيف أحلام التأويل الرقمي الوهمي والتفسير العددي الظني عقوداً من الزمن الضائع، كمبرر لتأجيل الجهاد والثورة في فلسطين، فحرص الشقاقي انطلاقاً من فقه الثورة على أن يأتي وعدالآخرة والشعب الفلسطيني جزءاً من الوعد الإلهي، ومُحرّكاً لتاريخ المستقبل، من خلال قيامه بدوره في إنجاز الوعد الإلهي بالفعل الإنساني، بإخراج القدر الإلهي من عالم الغيب إلى القدر الإلهي في عالم الشهادة، وحدد دور المجاهدين في فلسطين في : "إحياء فريضة الجهاد ضد العدو ومشاغلته واستنزاف طاقاته، وكشف وجهه البشع، وتدمير ما يستطيعون من قدراته، وإدامة الصراع حياً حتى وحدة الأمة وتحقيق النصر". ولذلك أنشأ حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين لتقوم بهذا الدور أسوةً بتجربتي الإمامين الشهيدين: عزالدين القسام وحسن البنا في الجهاد المُسلّح بفلسطين.
تجاوز الشقاقي فقه الانتظار عندما رفض فكرة انتظار التوازن الاستراتيجي، أو التكافؤ العسكري، أو مراكمة القوة... لتبدأ حرب التحرير الفاصلة مع الكيان الصهيوني لتحرير فلسطين، كمبرر لتأجيل الجهاد والثورة في فلسطين، فكتب يقول: "إنَّ الثورة عمل غير مؤجل، وإنَّ الوجوب فوق الإمكان، وإنَّ مهادنة العدو والهروب من مواجهته حتى تكتمل ما تُسمى بالقدرة المكافئة هو وهم يشل الحركة ويقتلها، ويسمح للعدو بالنمو والتعاظم، ويجعله دوماً في الوضع الأفضل للانقضاض". وطرح مفهوم (مشاغلة العدو)، كأفضل طريقة لمراكمة القوة وتحقيق توازن الرعب، واستنزاف العدو، وزعزعة استقراره، وتقويض أمنه، وتعميق مأزقه الوجودي، وضرب ركائز المشروع الصهيوني المعتمد على الأمن والهجرة والاستيطان... لإجباره على الرحيل عن الأرض الفلسطينية، وصولاً إلى التحرير الكامل لفلسطين بالحرب الشاملة الفاصلة بمجهود كل الشعب والأمة أو من يؤمن بمشروع المقاومة والتحرير منهم.
فقه الثورة الذي آمن به المفكر الشهيد فتحي الشقاقي كان حاضراً في أدب نجيب محفوظ، الأدب الذي قرأه الشقاقي وحثَّ إخوانه وتلامذته على قراءته، فأخذ كاتب هذه السطور بتوجيه الشقاقي فوجد في رواية (الحرافيش) لاسيما حكايتها العاشرة (التوت والنبوت) ما يدل على فقه الثورة من خلال ثلاثية تجمع بين الرمزية والصوفية والوجودية، فالرمزية كامنة في أسطورة البطل (عاشور الناجي) المهدي المنتظر لأهل الحارة الذي سيُخلّصهم من الظلم والاستبداد والفساد، استبدله نجيب محفوظ بالبطولة الجماعية لينهض (الحرافيش) بالثورة بأنفسهم للخلاص من الظلم.
والصوفية عنده تجاوزت مفهومها التقليدي السلبي بالعبادة الفردية والزهد في الدنيا والعزلة عن الناس وانتظار الفرج دون فاعلية... إلى مفهومها الثوري الإيجابي في تحريض المظلومين على الثورة، وتشجيع المستضعفين على المقاومة، وزرع الأمل بالخلاص في نفوس البؤساء، والتوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب. والوجودية تعدت مفهوم الاغتراب السلبي ومفاهيم العجز واللامعنى واللاجدوى... إلى الإيمان بقيمة الإنسان، والثقة بقدرته على التحكم بحاضره ومستقبله ومصيره، من خلال تغيير معتقداته وأفعاله وفقاً للقانون الإلهي " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" في أفضل تجلّى لفقه الثورة الذي جمع بين الإمام الثائر آية الله الخميني، والأديب الكبير نجيب محفوظ، والمفكر الشهيد فتحي الشقاقي.