الكاتب:
د. وليد القططي
زرت في أيلول سبتمبر الماضي ضريحي القائد البطل صلاح الدين الأيوبي والعالِم الشهيد محمد سعيد البوطي أثناء وجودي في سوريا، وهما يرقدان بجوار بعضهما في رحاب المسجد الأموي وسط دمشق القديمة، وبعد أيامٍ من هذه الزيارة توّفي العالِم الكبير يوسف عبدالله القرضاوي في العاصمة القطرية الدوحة، وكانت زيارة ضريح البوطي وخبر وفاة القرضاوي مدعاة لاستحضار بعض الذكريات الماضية المرتبطة بسيرة العالِمين الراحلين كمدخلٍ لإلقاء الضوء على الخلاف السياسي الذي وقع بينهما في موضوع (الثورة) على النظام الحاكم في سوريا رغم انتمائهما إلى مدرسة إسلامية واحدة في العقيدة والفقه.
كان أول كتاب قرأته في الثقافة الإسلامية هو كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) للدكتور القرضاوي، في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، فكان مدخلاً مشجعاً لمواصلة القراءة في الثقافة الإسلامية لما له من قيمة علمية وعملية؛ تُيسّر الفقه للمسلمين في واقعهم المعاصر. وكان من أهم الكتب التي قرأتها في بداية ثمانينيات القرن العشرين، كتاب (فقه السيرة النبوية) للدكتور البوطي، لما له من قيمة تحليلية واستنباطية؛ تُقدّم السيرة النبوية بطريقة مُفيدة للمسلمين في واقعهم المعاصر، فكان الكتابان للعالِمين – القرضاوي والبوطي – وإبداعهما الفكري الآخر كله من أهم أُسس المنظومة الفكرية الإسلامية المعاصرة.
مرتْ سنواتٌ من الزمن وأردتُ شراء نسخة جديدة من كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) من معرضٍ للكتاب بغزة أقامته جماعة سلفية، وتوّقعت وجود الكتاب في المعرض نظراً لشهرته الواسعة وتعدد طبعاته المُتتالية، فلم أجده بين الكتب، التي كانت معظمها مصبوغة باللون السلفي الوهابي، فسألت مدير المعرض عن الكتاب، فنفى وجود كتاب (الحلال والحلال في الإسلام) في المعرض، فصححت له اسم الكتاب (الحلال والحرام في الإسلام)، فكرر نفس الإجابة مُضيفاً عليها بعض الألفاظ المسيئة للدكتور القرضاوي، مُبرراً ذلك بأنّه لم يجعل في الإسلام شيئاً مُحرّماً، فحلل الموسيقى والتصوير وحلق اللحية وكشف وجه المرأة...
ومضت سنواتٌ أُخرى، حتى وصل قطار الزمن إلى المحطة التي أشعل فيها الفقير البائس محمد البوعزيزي نار الثورة في جسده المُنهَك، فأشعلت نار الثورة في كل بلده تونس، لتنتقل إلى جوارها العربي الطافح بالفساد والاستبداد، لتصل مُحمّلة بكل أنواع الشٌبهات والمؤامرات إلى سوريا العروبة والمقاومة؛ لتخرج أسوأ ما في جوفها من تكفير وتقتيل، وذروته اغتيال العالِم الكبير محمد سعيد البوطي، وهو الحدث الذي فرح به اثنان من زملاء العمل من التيار السلفي الوهابي بغزة آنذاك، فتبادلا التهنئة باغتيال البوطي، وعندما استنكرت عليهما ذلك الأمر المُشين، بدأ سيل الشتائم ينهال على الدكتور البوطي بأبشع الألفاظ والأوصاف.
موقف مدير المعرض من الدكتور القرضاوي، وزميلي العمل من الدكتور البوطي، هو نفس موقف التيار السلفي الوهابي اجمالاً من العالِمين، المُتسم بالكراهية لشخصهما والرفض لفكرهما، وسببه انتمائيهما لمدرسة إسلامية معتدلة نقيضة للمدرسة السلفية الوهابية المتطرفة، وهي المدرسة الأشعرية الوسطية التي تُمثل العمود الفقري لـ(أهل السنة والجماعة)، اللقب الذي تحاول المدرسة السلفية الوهابية احتكاره لنفسها، لتحتكر من خلاله تمثيل الإسلام. وكلا العالِمين تخرجا من جامعة الأزهر التي تتبنى المذاهب الفقهية الأربعة لـ(أهل السنة والجماعة) وفق المذهب الأشعري في العقيدة، المدرسة التي قدمت الإسلام الوسطي المعتدل بدون إفراط أو تفريط، وجمعت بين النقل والعقل، ووازنت بين الثبات والمرونة، وزاوجت بين فقهي النصوص والمقاصد، وابتعدت عن الغلو والتطرف والتكفير واستحلال الدماء بغير حق.
ويُعتبر العالِمان امتداداً لمدرسة الإحياء الديني والبعث الإسلامي التي أسسها الإمام جمال الدين الأفغاني، ووصلت إلى الشيخ محمد الغزالي التي تُركز على: وحدة الأمة الإسلامية، والمشروع الحضاري الإسلامي، ووسطية الإسلام والأمة، وصلاحية الإسلام لقيادة البشرية، والعودة إلى النبع الصافي (القرآن والسُنّة)، والتجديد المعاصر للفقه والفتوى، والجمع بين الأصول والإبداع في التراث، والتيسير في الفقه، والتبشير في الدعوة، والروح في العبادة، واليقين في العقيدة، والالتزام في الأخلاق، ورد الجزئيات إلى الكليات، والظنيات إلى القطعيات، والمتشابهات إلى المُحكمات، والفروع إلى الأصول... وانتماء العالِمين لمدرسة إسلامية واحدة لم يمنع التمايز الطبيعي بينهما كعالِمين مجتهدين ومفكرين مبدعين.
ركّز القرضاوي إضافة لفقه النصوص على فقه: المقاصد والسُنن والواقع والحضارة والأولويات والموازنات والاختلاف، وناقش قضايا: الأصالة والمعاصرة، والتراث والاجتهاد، والثقافة والتغريب، والصحوة الإسلامية. وقدم حلولاً لمشاكل: الاقتصاد والفقر، والغلو والتطرف، والسياسة والحكم، والتمذهب والاختلاف. وتبني القدس وفلسطين كقضية أولى للأمة العربية والإسلامية، وأفتى بجواز العمليات الاستشهادية في فلسطين. أمّا البوطي بصفته يُمثل الاتجاه الأكثر محافظة وتمسكاً بالثوابت والأصول داخل المدرسة الأشعرية الوسطية، فقد ركّز على وضع ضوابط للاجتهاد والفتوى والتجديد خاصة للمصلحة الشرعية، وقدّم رؤىً إسلامية لقضايا: الاقتصاد، والمرأة، وتحديد النسل، وحرية الفرد، وحقوق الإنسان، وتربية النشء. والتغيير الاجتماعي. واعتبر أنَّ (السلفية) مرحلة زمنية مباركة وليست مذهباً إسلامياً، وحرّم الاعتراف بالكيان الصهيوني وعقد الصلح معه وضرورة الجهاد لتحرير فلسطين.
التمايز الفكري بين العالِمين كان طبيعياً، ولكن الخلاف السياسي حول ثورات (الربيع العربي) خاصةً حول سوريا لم يكن طبيعياً، فقد تجاوز الحد الطبيعي عندما طالب الشيخ القرضاوي أمريكا- عدو العرب والمسلمين - أن تقف "وقفة لله" في دعم المعارضة المُسلّحة في سوريا ضد النظام الحاكم، وعندما أفتى بوجوب قتال "الذين يعملون في السلطة.. عسكريين ومدنيين.. علماء وجاهلين" واعتبر أنَّ "من يقف مع السلطة هو ظالم مثلها، يجب أنَّ نقاتلهم جميعاً"، رداً على سؤال يتعلق بموقف الشيخ البوطي من النظام السوري ففهم البعض من ذلك جواز قتل الشيخ البوطي فقتلوه. بينما اعتبر البوطي أنَّ تحريض القرضاوي على الثورة في سوريا بأنها طريقة غوغائية، واعتبر "الطريقة الغوغائية ليست هي الطريق التي تصلح الفساد، بل هي التي تفتح أبواب الفتنة" وهذا الخلاف السياسي بين العالِمين يعود إلى اختلاف الأرضية السياسية والحركية بينهما.
ينتمي الدكتور القرضاوي إلى تيار جماعة الإخوان المسلمين حركياً وفكرياً، فتبنى مشروع الجماعة في الوصول إلى السلطة في البلدان التي ضربتها أعاصير (الربيع العربي)، تمهيداً لإقامة مشروع الخلافة الإسلامية، وكانت سوريا إحدى هذه البلدان المؤهلة لتحقيق المشروع بعد إسقاط نظام الحكم القائم فيها بالتحالف والتنافس مع التيارين السلفي والليبرالي فيها، وزاد من حدة موقفه تجاه سوريا واقترابه من الموقف السلفي المتطرف ومجاملته للتيار الوهابي السعودي، وإثارته للبُعد المذهبي.. خلافه مع الأزهر الأشعري الذي دعم إسقاط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وخصومته السياسية والمذهبية مع إيران بإسلامها الثوري العمود الفقري لمحور المقاومة والداعمة الأساسية لسوريا المقاومة.
بينما ظل الدكتور البوطي على موقفه المستمد من التراث الإسلامي السُني بمدرسته الأشعرية وأساسه رفض الخروج على الحاكم إلاّ بظهور الكفر البواح الصريح منه، ووجوب طاعة الحاكم حتى لو كان فاسقاً أو جائراً، وإنْ كان أخذ الحكم بالتغلّب (الثورة أو الانقلاب)، وفق جواز (إمارة المتغلّب)؛ منعاً للفتنة ودرءاً للفوضى وحقناً للدماء، بناءً على قاعدة الأخذ بأخف الضررين وأقل الشرين وأهون المفسدتين، وترك أشد الضررين وأكثر الشرين وأعظم المفسدتين. وبناءً على نظريته في التغيير الإصلاحي التدريجي الذي يبدأ بالفرد وينتهي بالدولة مروراً بالجماعة والمجتمع، لاسيما وهو يرى ببصره وبصيرته مآلات (الثورة) المُدمرة على سوريا شعباً ونظاماً ودولة. فأراد أنْ يغلق باب الفتنة سداً لذرائع الفساد.
والحقيقة بعد التأكيد على حق الشعوب في الثورة لانتزاع حريتها وكرامتها وحقوقها أنَّ ما يفتح باب الفتنة والفساد هو عدم قدرة بعض العلماء على التمييز بين مصلحة الأمة ومصلحة الجماعة، والتفرّيق بين مصلحة الشعب ومصلحة الحزب، والفصل بين الثورات الأصيلة الموّجهة لإصلاح العباد وبناء البلاد وتطوير الأوطان وتحرير الشعوب، وبين الثورات الهجينة الموّجهة لإفساد العباد وتدمير البلاد وتخلّف الأوطان وتقييد الشعوب.