الكاتب: مروان أميل طوباسي
بفوزه في انتخابات الرئاسة بالبرازيل يوم امس توج المرشح اليساري لولا دي سيلفا مسيرة فوز وصعود اليسار التقدمي إلى سدة الحكم في دول امريكيا اللاتينية ، وذلك بعد فوزه على منافسة اليميني الرئيس السابق بولسونارو الذي اعتبر احدة الاعمدة الداعمة لسياسات الولايات المتحدة والمحافظين الجدد كما ايضا الحركة الصهيونية العالمية التي وفرت الدعم له في معركته الانتخابية .
ويعتبر اليساري التقدمي دي سيلفا من اقرب الزعماء تاييدا ومناصرة لمسيرة كفاح شعبنا ضد الاحتلال كما لكل قضايا المستضعفين بالأرض والحركات الثورية المناهضة للسياسة المتوحشة للولايات المتحدة التي لم تدخر جهدا خلال العقود الماضية في محاولاتها الانقلابية بشتى الوسائل للاطاحة بالأنظمة التقدمية واليسارية بعدد من دول القارة اللاتينية كما فعلت في غيرها من دول العالم أيضا ، إضافة إلى سياسة الحصار والعقوبات الاقتصادية على دول لاتينية أخرى لمجرد خروجها من عباءة التبعية للولايات المتحدة أو تحدي سياساتها .
وتُعد عودة اليسار دَفعة قوية لقضايا الشعوب العربية وعلى رأسها قضية كفاح شعبنا الفلسطيني ، فقد كانت "إسرائيل" تراهن على اليمين لنقل سفارات هذه الدول إلى القدس ، وتعمل عن قرب معها.
فخلال فترتي ولايته ٢٠٠٣ حتى ٢٠١٠ حرص الرئيس لولا على الدفاع عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحل الدولتين بحدود ١٩٦٧ المعترف بها دولياً وعاصمتها القدس الشرقية ، و اتخذ لولا موقفاً يطالب بمشاركة ومسوؤلية أكبر من المجتمع الدولي، والأمم المتحدة على وجه الخصوص في انهاء الاحتلال ووقف الانتهاكات المستمرة لحقوق شعبنا الفلسطيني ، واعترف بدولة فلسطين قبل نهاية ولايته انذاك عام ٢٠١٠ ، وبات يتوشح بالكوفية الفلسطينية .
أن ما نشهده اليوم بل ومنذ سنوات يشكل تعابير الموجة الثانية لانتصارات اليسار في أمريكيا اللاتينية والتي ابتداءات سابقا وفي ظلال الاستعمار المنهار في كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا , حيث شكل اليسار اللاتيني المحور الأساس في حركات التحرر التي اعتمدت اسلوب حرب العصابات والمقاومة الشعبية المسلحة بالعديد من الدول في تلك القارة لتحقق بذلك المفاوضات السياسية وتحصد انتصارات لحركاتها الثورية اليسارية ضد الاستعمار ، قاد بعضها القائد تشي جيفارا حينها بنظرياته التي أثارت تفاوت بالرأي حولها بين اليسارين انذاك .
واذكر هنا انه بالعديد من تلك الحركات شكل تواجد عدد من المناضلين اليساريين الفلسطينين أهمية ودورا بارزا في توجيه تلك الحركات وموجات انتصاراتها اللاحقة ، حيث شغل شفيق حنضل مثلا الذي تعود اصوله إلى مدينة بيت لحم موقع سكرتير عام الحزب الشيوعي في السلفادور وغيره اخرين ، كما ولعب عدد من رجال الكنيسة الكاثوليكية في تلك الدول دورا ثوريا الى جانب اليسار في مناهضة الاستعمار والأنظمة العسكرية الفاشية ، في ما بات يسمى لاحقا بلاهوت التحرر .
لقد ساد الاعتقاد سابقا بأن اليسار في أميركا اللاتينية مع حلول عام ٢٠١٥ قد بلغ ذروته عندما نجح شبح اليمين بالتعاون مع العسكر بإشراف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالاطاحة به في عدد من الدول انذاك بدعم من الولايات المتحدة ومافيا المال والمخدرات وحتى بتعاون مع الحركة الصهيونية المسيحية والافنجيلين الذين امتدوا من الولايات المتحدة إلى دول أخرى.
وبذلك بداء يظهر نموذج من اليسار التقدمي منذ ٢٠١٩ بتقديم برامج مناقضة للسياسات النيوليبرالية الجديدة والمتوحشة التي دمرت بلدانهم بالتعاون مع البنك الدولي . فبداء هذا اليسار الذي رفع شعارات التضامن بين الشعوب والعدالة الاجتماعية والسلم الدولي وتعميق الديمقراطيات وتعزيزها ومحاربة الفقر والتوزيع العادل للثروات ، إضافة الى مواجهة كل أنواع الاضطهاد السياسي والتأكيد على مبداء حق تقرير مصير الشعوب إضافة إلى قضايا المرأة والبيئة ، وهو يسار مُبدع غير منغلق التفكير وليس مغلف بقوالب جاهزة ، في تحقيق انتصارات .
وتزامن تبلور هذا الفكر اليساري التقدّمي مع الصعود الجديد لليسار الذي عاود الظهور في المكسيك، تبعتها الأرجنتين وتتالت انتصارات اليسار في دول مثل بوليفيا وفي بيرو وهندوراس وفي تشيلي ومؤخرا في كولومبيا، واستمر هذا المد التقدّمي اليساري فشهد عودة لولا دا سيلفا إلى الحكم في البرازيل قبل يومين .
هذا التطور عبر عن "موجة وردية ثانية" لليسار التقدمي كما يصفها بعض المراقبين ، تتمتع بدعم إيجابي من أغلبية السكان في جميع أنحاء أميركا اللاتينية ، بفكر ذو نفس ثوري واقعي ، يركز على إعادة هيكلة اجتماعية عميقة للحد من الفوارق الطبقية.
هذه الرؤية جعلت شعوب أميركا يميلون تجاه المرشحين اليساريين هؤلاء الذين يؤكدون على سياسة تعزز العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة في بلدانهم.
فما شهدته هذه البلدان هو نوع من التصويت العقابي الجماعي ضد سياسات اليمين النيولبيرالي الشعبوي الذي ادت برامجه إلى مزيدا من الفقر لشرائح واسعة من شعوب المنطقة وإشاعة الفساد الاقتصادي .
وأمام هذا اليسار التقدمي الذي ممكن ايضا وصفه بالجديد كما في فرنسا وبعض دول اوروبا الغربية فرصة تاريخية لتأكيد مدى صوابية أطروحاته ومصداقية شعاراته من التقرب إلى مكونات شعوبه ، إذا عرف كيف يتعاطى مع التحديات الكثيرة التي تواجه شعوب دوله أو الحدِ منها .
مع عودة لولا دا سيلفا وهذه القوى اليسارية التقدمية إلى السلطة في بلدانها ، يتوقع أن نرى في النهاية عودة التحالف اليساري الكبير إلى العلاقات الدبلوماسية في أميركا اللاتينية ، ما قد يخفف الضغط على دول يسارية اخرى مثل كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا ، بهدف مواجهة الهيمنة الأميركية وتقديم بديل لانظمة دول أميركا اللاتينية السابقة التي كانت تحت سيطرة الولايات المتحدة والغرب ونفوذ دكتاتورية العسكر فيها .
فالمهم أن يؤدّي هذا الانعطاف اليساري بموجته الثانية الآن في اميركا اللاتينية إلى تغييرات في السياسات المحلية في دولها تعود بتطوير دور القارة اللاتينية كقوة اقليمية ولاعب اساس بالسياسة الدولية ، وبالنفع على شعوبها وتنفيذ برامج المساوة الاجتماعية والاقتصادية والتوزيع العادل للثروات . والعمل ضمن التشكيلات والتكتلات الدولية القائمة مثل البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها والتي تضم اساسا روسيا والصين والبرازيل وغيرها من الدول الاسيوية .
ان نجاح هذه الدول في عملية التحدي سيبعث لا محالة ديناماكية جديدة تحرك الخطوط للتقدم نحو نموذج عالمي بديل ونحو نظام دولي متعدد الاقطاب ، ما أحوج العالم وشعوبه اليوم إليه ينهي احادية القطب الواحد وهيمنته البشعة ، وهو أمر يجب أن يعود حينها باثر إيجابي على قضية تحرر شعبنا الفلسطينى واستقلاله الوطني كما على قضايا شعوب العالم المضطهدة .
هذه النجاحات تدفعنا الى فهم التجربة والنظر الى واقع مجتماعاتنا العربية التي بات اليسار فيها بعيدا عن تحقيق نجاحات . ففي الوقت الذي يحقق فيه اليسار التقدمي أو الجديد النجاحات في أمريكا اللاتينية وبعض الدول الاوروبية استنادا إلى تجديد خطابه وواقعية شعاراته واقترابه من هموم الناس ، فاننا ما زلنا نرى ان اليسار العربي ما زال جامدا يعيش في أفكار ماضي التاريخ في بعض طروحاته غير ابه للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية او للتحولات الدولية الجارية ، في وقت تقف فيه على الجهة الأخرى من مجتمعاتنا حركات إسلامية سياسية متكلسة وعاجزة عن أي تطوير وتحاول منع التقدم الاجتماعي تحت مبررارات فهمهم الخاطئ للديانات ، كما وتلعب دورا مشبوها في تدمير المشروع الوطني لشعوبنا العربية وفق احداث بما سمي بالربيع العربي بحسب وصفة الهيمنة الأمريكية الذي أخرج لصالح دولة الاستعمار الأستيطاني وتوسعها واستدامة احتلالها .