الكاتب:
الكاتب: زاهر العريضي
إنتهى عهد الرئيس ميشال عون، ودخل لبنان في فراغ رئاسيّ، في ظل انقسامات حادة، وسيناريوهات غامضة، وواقع اقتصاديّ واجتماعيّ منهار. ونهاية العهد ستكون بداية مرحلة جديدة، للخروج من مأزق الفراغ، والأزمة الطاحنة، مما يجعلنا أمام مفترق طرق، بين المسار الإصلاحيّ والانقاذيّ وخيار التسوية المؤقتة الهشّة.
ستّ سنوات أمضاها الرئيس ميشال عون في أصعب ظروف وأخطر أزمات. نجح في الصمود والبقاء ولكنه لم ينجح في تحقيق الأهداف التي رسمها والوعود التي أعطاها… أما الأسباب والعوامل التي حالت دون ذلك، فإنّها كثيرة ومتعدّدة… ولسنا في صدد استعراضها إنْما الهدف إعادة طرح الأسئلة الجوهريّة. لبنان الى أين ؟
ad
في عملية استعراض سريعة للراهن العالميّ والإقليميّ، من حرب أوكرانيا وأزمة الطاقة التي تنسحب على الركود الاقتصاديّ العالميّ، والتضخّم المتزايد، وغلاء المواد الغذائيّة ، كلّها تصبّ في حقيقة أن السنوات المقبلة مليئة بالضغوط والمفاجآت والإنقلابات السياسيّة في المواقف والإنحيازات. وعمليات الإستقطاب الدوليّ ستكون بدورها عنواناً بارزاً، محاولات جرّ هذا الطرف أو ذاك إلى معسكر أو تحالف أو تجمّع ضد آخر، آخذة في التبلور.
وإذا عدنا الى ظروف انتخاب الجنرال عون، فالتغيير الكبير الذي طرأ على الأجواء الإقليميّة والدوليّة بعد العام 2016، والمقصود به خصوصاً التغيير الذي طرأ على السياسة الأميركية في المنطقة مع الرئيس السابق دونالد ترامب. مسافة أيام قليلة فصلت بين انتخاب عون
رئيسا للبنان) 31 تشرين الأول 2016( وانتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة) 4 تشرين الثاني 2016. كان إنتخاب عون ثمرة من ثمار الإتفاق النوويّ بين إيران وإدارة أوباما، ولو تأخّرت جلسة الانتخاب أياماً، ربما كانت فرصة إنتخاب عون وحظوظه تغيّرت. ومع ترامب سقط الإتفاق النوويّ وانتقلت العلاقة بين واشنطن وطهران الى مواجهة مفتوحة اقتصادياّ(العقوبات) وسياسياً(صفقة القرن واتفاقات دول الخليج مع إسرائيل وإغتيال القائد قاسم سليماني) ،وانعكس ذلك على سياسة أميركا تجاه حزب الله وحكومة لبنان الّتي صُنفّت حكومة حزب الله. وبعد سقوط ترامب، جاء الرئيس جو بايدن مع سياسة أميركية جديدة في المنطقة، مخالفة لسياسة ترامب في الأسلوب والمقاربة، ولكنها متقاربة معها في الجوهر والأهداف، بدءاً من الإنسحاب الأميركي من أفغانستان… ومع دخول العالم في مرحلة هي الأكثر خطورة وغموضاً لم تتّضح أو لم تكتمل معالمها بعد بانتظار نتائج حرب أوكرانيا ومستقبل أوروبا والنظام العالمي الجديد ونهاية مفاوضات فيينا ومصير الإتفاق النوويّ الإيرانيّ، إلخ …فإن لبنان دخل مرحلة الانتظار القلق ،بانتظار تبلور الصورة الإقليميّة وانقشاع الرؤية الدوليّة…
ولكن كلّ ذلك، لا يمحي حقيقة جوهريّة متمثلة في عقم النظام والصيغة اللّبنانيّة، والّتي إن لم تأخذ المسار الإصلاحيّ فليس امامنا سوى توليد الأزمات وتشريع الساحة على مهبّ الرّياح الدوليّة.
فالطائفية مقولة لبنانية بامتياز، إنّها أمرر تكوينيّ وذاتيّ في نشوء الكيان وليست حالة عارضة، ومفهوم الإصلاح يبدأ من هذه الحقيقة، والطوائف في لبنان، ليست مجرد أديان إنّما منظومات سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة اقتصاديّة تخوض غمار اللّعبة السياسيّة ولا تقتصر على تعاليم الدين والشريعة وممارسة الطقوس والشعائر ، وهذه حقيقة أخرى في أي عملية إصلاحيّة، فالطائفية فكرة وسياق ونظام حياة، ذلك ما يُعرب عنه سلوك الطوائف بعضها حيال البعض. فهو سلوك يجري على أساس خريطة معرفية عرفت بالصيغة، أو ما يسمى بالميثاق الوطنيّ 1943. ظهرت صورة لبنان بعد نهاية حربه الأهلية (1989 -1990) مركَّبة على نشأة أمنيّة غالبة.في مناخ المقولة الأمنيّة صارت السلطة السياسيّة الطالعة من اتفاق الطائف أشبه بمستوعب شرعيّ لاستقبال محاربي الطوائف. وتمّ حشو أجهزة الدولة ومؤسساتها بأكبر عدد من موظفيّ القطاع العامّ، لضمان حسن سير آليات الزبائنيّة،رغم أن أتفاق الطائف نصّ على بنود مهمة وإصلاحيّة والذهاب نحو بناء الدولة الوطنيّة، والمسار التدريجيّ إلغاء الطائفيّة وحسم جدل هوية الانتماء. إلّا أن الانقلاب على الطائف حصل على أيدي من هم في السلطة فأخلّوا بالعقد الاجتماعيّ ولم يطبقوا اتفاق الطائف أصلاً، ودون قدرة النخب اللاطائفية على بناء أو تفعيل دورها واستمرّت ازدواجية الولاء للطائفة والوطن
والعيش في كهف الطائفية، وفي تعدّد الولاءات المرتبطة بأولياء أمر من الخارج،
وأخذت كل طائفة تعزيز حضورها بين أبنائها وداخل مؤسسات الدولة في الوقت عينه. في ما يشبه العزف الجماعيّ على إيقاع توازن المصالح. وانسحب ذلك على كل البنى الثقافيّة والاقتصاديّة والماليّة الّتي يجري بواسطتها إعادة إنتاج ثقافة المجتمع كلّه. وانبرى العاملون في مندرجاتها يشتغلون كدعاة يمنحون الزعيم الطائفي شرعيته ومجده المترامي الأطراف.
جاء هذا الزرع في حقل الصيغة اللّبنانيّة بذاتيّها الطائفيّة لتنتج سياقات من الحروب والعنف وتعدد الولاءات وضياع الهوية والتاريخ الموحد، وفقدان المواطنة والولاء الوطنيّ، وانفصام جمعيّ، تمثل في المزرعة السعيدة من أمراء طوائف والزعمات والحاشية والمنتفعين في صيغة مبنية على رابط وثيق مع منظومة الرأس المال وحراس الهيكل على قاعدة المصالح
المشتركة…. فكان عام 2019 نقطة التحوّل في محاولة لهزّ مستنقع المنظومة الّتي أستطاعت أن تنجو بأعجوبة وأعادت تكوين السلطة بادواتها الطائفية وقانون انتخابيّ على قياسها في ظل تخبّط التغييريّين ما بين قلّة صادقة وأصحاب مشاريع مصلحيّة وأدوات لمخططات خارجيّة. فخسرنا لحظة تاريخيّة في العبور الى بناء الدولة الّتي نراها على مستوى تضحيات هذا الشعب الخارج من لعنته الطائفيّة وتعويذة المنظومة، إلى رحاب الوطن الّذي قدم أبناءه قرابين على مذبحة الحرّيّة، الى هذا الأرز الشامخ إلى مبدعيه ورجالاته ونسائه وفنانيه وأدبائه، الى هذا البحر الذي ابحر منه أبناؤه الى قارّات العالم، ليرفعوا من شأنه وينجحوا ويتميّزوا، إلى هذه المدينة الّتي فتحت ذراعيها لكلّ عربيّ نشد الحرّيّة، إلى هذا التراب الّذي تعمّد بدماء فلسطين وهتف للقدس، إلى هذه المقاومة الّتي انتصرت وحرّرت وقهرت الجيش الذي لا يقهر، الى هذا الفضاء الحرّ، إلى لبنان الرسالة في تنوّعه ومعتقداته وإيمانه،
هذا ليس شعراً، وليس ضرباً من خيال، هذه حقيقة تسكن صدر كلّ لبنانيّ، يصارع لعنة الانفصام، وإدمان الازدواجيّة، وتعويذة الطائفيّة، وجرح المواطنة، وحلم الوطن، وقهر المزرعة التي عاثت فساداً وسرقتنا واذلّتنا وقزّمتنا، هذه المزرعة غير السّعيدة الّتي اجتمع لصوصها على ذبحنا، وإهانتنا، وإفلاسنا، وقتلنا…
انتهى عهد الرئيس، وبدأ البازار السياسيّ في لعبة الفراغ، فارحموا ما تبقى فينا من كرامة وعنفوان، من حيويّة وإنسان. العالم بأكمله على المحك، الإقليم مشتعل، العالم الجديد في مخاضه، والدول لا ترحم، وأنا أقرب الى الأعجوبة في حضرة العقول الضيقة والنفوس الدنيئة.