الكاتب: د.سامي محمد غنيم
تم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964 كجسم يمثل الفلسطينيين في إطار مجموعة من التجاذباتوالتناقضات العربية ما بين الراغب في الوصاية على الفلسطينيين وسلبهم ثمثيلهم لذواتهم ككيان عربي بهوية مستقلة وبين من رغب بقطع الطريق على الفريق الأول.
كانت منظمة التحرير في تلك الفترة لا تملك من الشرعية سوى ما تم منحه لها من الإطار العربي الرسمي عبر قبول تمثيله للفلسطينيين في المحافل الرسمية .
كان لدخول الفصائل الفلسطينية التي تعتمد الكفاح المسلح أسلوبا لتحرير فلسطين مثل فتح والجبهة الشعبية سنة 1968 أثرا كبيرا في تحول وتصحيح مسار منظمة التحرير لتصبح صاحبة التمثيل الحقيقي للفلسطينيين ، وأصبحت منظمة التحرير الجامع للكل الفلسطيني فقد كانت السياسة التي انتهجها ابو عمار منذ رئاسته الاولى للجنة التنفيذية 1969 تقوم على احتواء أي إطار فصائلي أو شبابي أو مهني عبر الأرضية الجامعة وهي منظمة التحرير .
مرت حالة التمثيل الفلسطيني بمجموعة من العثرات والمعوقات والمحاولات للخروج من هذا الجسم وانشاء اجسام بديلة ، وبغض النظر عن مبررات واسانيد هذه المحاولات إلا أنها جميعا لم تفلح ، وبقيت منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين سواء على المستوى الوطني في الوعي الجمعي للفلسطينيين ،أوعلى المستوى الرسمي العربي والدولي حيث أجبر الجميع على التعامل مع هذا الكيان الفلسطيني الجامع كممثل للفلسطينيين وناطق باسمهم ومعبرة عن آمالهم وأحلامهم في نيل الاستقلال وإقامة الدولة.
خاضت منظمة التحرير ككيان فلسطيني جامع العديد من الحروب والاشتباكات التي كانت ساعية لإنهاء رمزية تمثيلهاللشعب الفلسطيني واستقلاليتها أكثر مما كانت تسعى إلى هدمها ككيان قائم ، سواء كانت هذه الاشتباكات مع الاحتلال أو محيطها العربي أو حتى مع بعض أبناء جلدتنا من الفلسطينيين الذين سعوا للانقلاب عليها وعلى قيادتها الرسمية .
غير أن التحدي الحقيقي كان عبر بروز قوى فلسطينية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات تعتنق افكار لا تقوم على الوطنية الفلسطينية بقدر ما تنطلق من أفكار عقائدية أكبر من فكرة الوطن والمواطنة ، ولعل تباين الرؤى هو ما جعل من انخراط هذه القوى ذات البعد الجماهيري الوازن في منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني أمر صعب المنال رغم الكثير من المحاولات واللقاءات التي تمت بين قيادات حماس ومنظمة التحرير التي كان أهمها في السودان سنة 93 الا أن هذا التباين وعدم الاتفاق لم يؤثر على مكانة منظمة التحرير التي بقيت لدى جل الفلسطينيين وأمام المجتمع الدولي هي الممثل الشرعي للفلسطينيين.
الا أن التأثير الحقيقي على تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للفلسطينيين من الناحية العملية جاء على يد منظمة التحرير ذاتها ،وذلك بعد اتخاذ قرار في المجلس المركزي بإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في أكتوبر من العام 93 والذي قرر تكليف قيادات من الداخل والخارج كمجلس للسلطة تحت رئاسة ياسر عرفات .
هنا كان الأثر الأكبر على منظمة التحرير وذلك بعودة قياداتها وقيادة العمل الوطني إلى أراضي السلطة الناشئة ، وارتبطت رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية برئاسة منظمة التحرير سواء بالقرار سالف الذكر وعودة ابو عمار وتوليه مقاليد السلطة ،أو الانتخابات الرئاسية التي ترشح فيها وفاز بها ،أو الانتخابات للعام 2005 التى ترشح لها الرئيس ابو مازن وفاز بها وذلك بعد توليه رئاسة منظمة التحرير خلفا للراحل ابو عمار والتى رسخت فكرة أن رئيس المنظمة يجب أن يكون بذاته رئيس السلطة .
بمجرد العودة إلى أراضي السلطة بدأت مؤسسات السلطة تتضخم على حساب مؤسسات المنظمة سواء في الحجم او الصلاحيات ، فأصبحت صلاحيات السلطة تتجاوز إدارة شؤون الحياة اليومية للفلسطينيين في أراضي السلطة إلى اللقاءات مع الاحتلال عبر الوزراء ورؤساء أجهزة الأمن وممثليها وتوقيع الاتفاقيات والتنسيق الأمني والمدني ، بل وبدأت ومؤسسات السلطة تنازع مؤسسات منظمة التحرير اختصاصاتها مثل وزارة التخطيط والتعاون الدولي والتي اصبحت وزارة الخارجية التي تغولت على اختصاصات ورمزية تمثيل الدائرة السياسية لمنظمة التحرير وأصبحت تحل محلها في التمثيل الدولي في الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والمؤتمرات واللقاءات الرسمية وأصبح ممثليها في الدول الأخرى هم سفراء يجري ترشيحهم وتعيينهم من قبل وزارة الخارجية دون أي دور في ذلك لمنظمة التحرير ، وذات الشيء جري من وزارة المالية مع الصندوق القومي .
قد يقول قائل أن السلطة قد أضحت دولة الان ، ولا شك أننا نسعى لذلك ، ولكن من الناحية الواقعية نحن لم نصل إلى مستوى الدولة لا لدى الآخرين الذين رفضوا ذلك ،ولا لدينا نحن أنفسنا والدليل على ذلك أن منظمة التحرير لا زالت قائمة ويجري اللجوء إليها واستدعاء مؤسساتها للانعقاد كلما رغبنا في إجراءات تسعى إلى تعزيز الشرعية مثل انعقاد المجلس المركزي لتقيم العلاقات مع المحتل وناخذالقرارات عبره لكيفية التعامل وآليات المواجهة والتي يجري استعمالها سياسيا لاحقاً.
في العام 2007جرى انقسام الفلسطينيين وتمت السيطرة على قطاع غزة من قبل حركة حماس بالقوة المسلحة ، وبقيت الضفة الغربية في يد الحكومة الفلسطينية المحسوبة على حركة فتح .
من هنا بدأت إشكالية جديدة وحقيقية في التمثيل الفلسطيني ، حيث هناك حركة حماس التى حازت على شرعية الصندوق عبر فوز كبير في انتخابات 2006 من جهة، ومن جهة أخرى شرعية الحكم الواقعي لجزء مهم منالارض الفلسطينية الا وهو قطاع غزة على ما له من شرعية نضالية تاريخية واحتضانه لقضية اللاجئين لاعتبار أن العدد الأكبر من سكانه من هذه الشريحة ، وكذلك اعتباره البقعة الفلسطينية الاولى المحررة ، أما في الضفة فبقيت السلطة ومنظمة التحرير عبر حركة فتح والرئيس والتي تملك الاعتراف الدولي بتمثيل الفلسطينيين.
إن كافة المحاولات لتوحيد الفلسطينيين أنفسهم أو بمعونة الخارج قد باءت بالفشل ابتداء بمكة وانتهاء بالجزائر حتى الأن .
يشكل الانقسام هاجسا حقيقياً ً للكل الفلسطيني الذي يقر بكافة مكوناته أن المستفيد الوحيد منه هو الاحتلال، لذلك فإن إنهاء هذه الحالة الشاذة كانت ولا زالت مسؤولية وأمل الجميع بما فيهم طرفي الانقسام ،إلا أن كل منهما يرغب في النهايه بإنهائه وفقا لمحدداته والتي تقوم في أساسها من قبل الرئيس في اعتراف حماس بالشرعية الدولية كأداة أساسية من أدوات الاشتباك مع الاحتلال ، وتقوم من طرف حماس على ضرورة الإبقاء على فكرة المقاومة المسلحة كأساس لمواجهة الاحتلال والاعتراف بالأمر الواقع ومعالجة ما نجم عنه من ملفات .
من أجل ذلك يعتبر الجميع أن اجراء الانتخابات - خاصة من قبل حركة حماس والفصائل – للمجلس الوطني والرئاسة والتشريعي والمحلية كرزمة واحدة من حيث الاتفاق على الأقل وضمان التنفيذ المتقارب كأساس لحل ما وقعنا فيه من انقسام ، الرئيس كذلك لا يعارض هذا الأمر ولكنه يطالب أن يتم إجراؤها بعد إقرار حماس لمشروعه السياسي من جهة وعدم الإسراع في الانتخابات حتى ضمان مشاركة القدس فيها كرمزية سياسية لعاصمة الدولة من جهة أخرى .
أن ربط إنهاء الانقسام بالانتخابات وتجديد الشرعيات لثمثيل الفلسطينيين القاطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة وإدارة شؤون حياتهم اليومية وربطها بانتخابات المجلس الوطني الذي يمثل الإطار الجامع للفلسطينيين في الداخل والخارج فيه مغالطة خطيرة مبنية أساسا على التشوه الذي أصاب الأدوار التي كان يجب أن تتقاسمها منظمة التحرير والسلطة .
وقد يكون السبيل الأقرب لإنهاء هذا الوضع هو بإعادة ترتيب الأدوار باعتبار أن السلطة ليست إلا جهة إدارة لحياتنا اليومية وأن الثمثيل الحقيقي للكل الفلسطيني هو لمنظمة التحرير ، وبذلك لا يكون لانتخابات السلطة سواء تشريعية أو محلية أي أهمية في الملف السياسي العام ، إنما تبقى مسألة إدارية يمكن أن يجرى الاتفاق عليها بمعزل عن الشأن السياسي العام والذي يتطلب اجراء الانتخابات في كل اماكن تواجد الشعب الفلسطينى بما فيها القدس للمجلس الوطني والتوافق في كل مكان لا يمكن اجراء الانتخابات فيه .
أن البحث عن نظام سياسي – اداري - فلسطيني للسلطة جديد يعاد فيه ترتيب الأدوار وإزالة حالات التضارب في الصلاحيات خاصة بين رئاسة السلطة ورئاسة الوزراء أمر أصبح من الضرورة بمكان من أجل استمرار عمل السلطة والقيام بدورها دون أن تؤثر على وحدانية الثمثيل السياسي لمنظمة التحرير من جهة وعدم اعتبار السلطة بديل أو كيان مستقل من جهة أخرى بل هي مرتبطة بمنظمة التحرير واحدى مؤسساتها ، ويمكن أن نعتبر وفقا لهذا التصور أن دور رئيس السلطة أصبح عبئا على السلطة وعلى رئيس منظمة التحرير في ذات الوقت ، لذلك فإن تعديل النظام السياسي وإلغاء وجود منصب رئيس السلطة وإبقاء أمرالادارة لمجلس الوزراء عبر آليات رقابة من منظمة التحرير ولضمان الارتباط مع المنظمة فيمكن منح الدور السيادي لرئيس المنظمة باعتبار أن رئيس المنظمة هو رئيس السلطة حكما ولكن فقط من اجل منح الشرعية عبر الدعوة للانتخابات واعتماد نتائجها وتكليف رئيس الكتلة الأكبر بتشكيل لجنة الإدارة – الحكومة - كما يظهر الارتباط عبر اعتبار أن أعضاء المجلس التشريعي أعضاء في المجلس الوطني ممثلين عن القاطنين في الضفة وغزة.
إن هذا الرأي - والذي لا يزال أفكار عامة يحتاج إلى الكثير من التفاصيل – يعيدنا إلى بدايات تشكيل السلطة في سبيل التخلص من التشوهات التي ألقت بظلالها علينا وبالتالي يجعل من الاختلاف السياسي بين الفصائل أمر قابل للحل عبر ملفين لا يرتبط أحدهما بالأخر ألا وهما منظمة التحرير وكيفية إعادة بنائها والثاني هو السلطة كدور خدماتي لفئة محددة من الفلسطينيين تتواجد في الضفة وغزة .
ولا خير في كل هذا التطور لمؤسسات الدولة الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه .