الكاتب:
السرابيت هي جمع سربوت وهي لفظة يستعملها أهلنا في الخليج للدالة على الشخص التافه الكاذب، ولكن اللفظة لها جذرها في اللغة العربية وليس فقط لفظة تستخدم في اللهجات العامية الدارجة. فالسربوت كلمة مشتقة من السراب وهو ما يراه الرائي في شدة الحر من وجود بقعة مائية أمامه. ثم حرفت هذه الكلمة إلى السربوت لأنه يسربت على الناس أمورهم أي يخدعهم ويريهم ما هو ليس حقيقي.
مونديال كأس العالم في قطر الان كشف للرأي العام العربي سرابيت الامة، أولئك الأشخاص الذي ظهروا في السنوات الأخيرة، وقدمت لهم أجهزة الاستخبارات وبعض الأنظمة العربية المنابر والشاشات، وجيشت لهم جيوش من الذباب الالكتروني مجهول النسب والهوية على وسائل التواصل الاجتماعي، ليقدموا للشعوب العربية نموذج العربي الجديد القابل والمرحب بالتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، لتغطي تلك الأنظمة عورة قرارها بعقد اتفاق صداقة وتصالح مع الاحتلال الإسرائيلي وقادته المجرمين الدوليين، وتصنع مشروعية مزيفة امام شعوبها باستخدام مجموعة من السرابيت، يتصدرون وسائل الاعلام يمارسون الشعوذة الفكرية والسياسية، ليصوروا للجمهور ان ثمة تحول في الشارع العربي، وان العربي الجديد مسح ذاكرة عقود من المجازر والحروب الإسرائيلية اوغلت فيها إسرائيل بدماء العرب. مسح من ذاكرته شعب شقيق تشرد في المنافي والمخيمات البائسة، مسح عقيدة سماوية من وجدانه ان القدس أولى القبلتين ومسرى الرسول الاكرم محتلة، وجنود الاحتلال يدنسون حرمها ومحرابها وينكلون باهلها.
ad
وبعيدا عن الذاكرة الدموية، ان العربي الجديد لم يعد يتألم من مشاهد القتل اليومي الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين وهدم بيوتهم واعتقال حتى الأطفال، والعدوان المتواصل على سورية ولبنان.
هذه هي مسرحية السرابيت، لصناعة الصورة المزيفة عن حقيقة موقف الشعوب العربية، وتضليل الراي العام العربي، وجره نحو اليأس والإحباط والشعور بالعجز والتسليم بالواقع الجديد.
اليوم وعلى هامش مونديال قطر هذا الحدث العالمي الكبير، الذي تجتمع فيه الجماهير من كل مكان في الأرض بشكل عفوي بدون اجندات او دوافع سياسية، بدون قرار او تنظيم او توجيه او تأثير.
توجه جمهور هو عينة متنوعة من شعوبنا نحو تشجيع المنتخبات العربية المشاركة في المونديال، وساعدته الفرصة التاريخية بان المونديال يقام على ارض عربية. هم شريحة حقيقة عفوية من عدة دول عربية، جاؤوا فرادى وجماعات من اجل كرة القدم. لكنهم بمشاعرهم الصادقة وبعفويتهم عكسوا موقف الشعوب العربية الحقيقي من اسطورة التطبيع المزيف. وهدموا مسرح الدمى المتحركة و قطعوا لسان المهرج السربوت، وتحدثوا بلسانهم العربي المبين.
عبرت الجماهير العربية عن وجدانها ربما لأول مرة بهذا الشكل الجامع الموحد بدون وصاية على مشاعره، بدون اقفال على فمه، بدون سربوت تافه يتحدث باسمه. رفعوا علم فلسطين امام شاشات العالم، هتفوا لفلسطين وشعبها باعلا صوتهم، طردوا مندوب المحتل المنتحل صفة الإعلامي المتسلل الى ارض عربية ظانا انه سيستقبل بالترحاب، هكذا كان يتصور قادة الاحتلال، وقد زين لهم السرابيت المشهد، وصوروا بلادنا كحظيرة اغنام، ينساق فيها الناس خلف جزارهم بدون مقاومة. لكن لأول مرة ربما منذ عقود شهدنا بيانا سياسيا شعبيا عربيا بطابع عالمي من قلب الشوارع العربية ومن فوق المدرجات يعلن فيه المواطن العربي البسيط ان ضمير الامة حي وان قلب الامة ينبض، واننا امة لم تموت. فكانت الصدمة والوجوم في تل ابيب وعواصم التطبيع.
هذه الصور المؤثرة التي ترد من مونديال قطر وتنتشر في ارجاء العالم، ليست عابرة، وليس طقسا مرحليا، انما هي معيار صادق لاتجاه الراي العام العربي الحقيقي، وليس الراي العام المزيف، هي بمثابة عصا موسى الواقع امام افاعي سحرة فرعون الوهم والمتلاشي من هول الحقيقية. اننا امام حدث سياسي كبير يضاهي الحدث الرياضي العالمي.
هذه الصور وهذه المشاهد وهذه المواقف تؤسس لفهم حقيقي لدى كل النخبة السياسية لواقع المنطقة العربية، وتسحب شرعية الأنظمة المطبعة امام صلابة موقف شعوبهم من التطبيع.
ظهرت الشعوب العربية كما نعرفها، وكما راهنا عليها، رغم التضليل، والضخ الإعلامي، والاكاذيب، والتحريض، ومحاولات الشحن والتقسيم الطائفي والمذهبي، وتشويه وشتم كل من يقف في وجه تيار السرابيت المنتفخة من الأموال والعطايا.
كم نشعر بالفخر والسعادة بهذا التضامن العربي، وهذا الإصرار العربي على التعبير عن احتضانه للقضية الفلسطينية، في ملاعب كرة القدم، المكان الوحيد الذي اتيحت له فيه فرصة التعبير عن نفسه وموقفه. وكم نشعر بالسعادة ونحن نشهد انكفاء السرابيت واختبائهم في جحورهم، فلم تنفع رقصاتهم مع الحاخامات، ولم يصمد عناقهم للمستوطنين، ولم تجد تنظيراتهم عن الاستسلام للامر الواقع.
على صناع القرار والقادة في عالمنا العربي ان يدرسوا جيدا هذه الظواهر الشعبية الصادقة، وان يجعلوها معيارا، وان يراجعوا سياساتهم، وان ينسجموا مع شعوبهم.
أيها المشجعون العرب في قطر لقد وضعتهم دولة الاحتلال في الزاوية، وهزمتم سرديتها عن عزل قضية فلسطين عن باقي الدول العربية، وفتح الأبواب مع العرب بالتوازي مع قتل الفلسطيني واحتلال ارضه.
لقد نجحتم في جعل القضية الفلسطينية تحضر في هذا الحدث العالمي، وسلطتم الضوء على عدالة هذه القضية ومظلومية شعب فلسطين، لقد نجحتم في سحب الشرعية عن قرارات التطبيع والأنظمة الراعية له.
لقد نجحتم في اظهار الوحدة والاجماع على فلسطين، لقد نجحتم في رفع الأقنعة عن المهرجين السرابيت الذين احتلوا المنصات والشاشات للترويج للتطبيع. سلمت كل يد رفعت راية فلسطين، وكل حنجرة هتفت لفلسطين. نحن اخوة في الدم والمصير.. نحن امة واحدة، هذا يقين الى يوم الدين.