الكاتب: هبة بيضون
كان من نتائج الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لفلسطين تهجير عدد كبير من السكان الأصليين ( الفلسطينيين) سواء عام 1948 أو عام 1967 مما أدّى إلى انتشارهم في الدول المجاورة، كالأردن وسوريا ولبنان، حيث سكن اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات التي أقيمت لإيوائهم بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، مع وجود اختلاف بين دولة وأخرى في مقدار منحهم للحقوق الإنسانية والمدنية والسياسية، وفي مدى دمجهم وتقبلهم في المجتمع، بغض النظر عمّا هو معلن من قبل الدولة لغايات الاستهلاك المحلي والدولي، مع التنويه إلى أنّ هناك استثناءات في معاملة أولئك اللاجئين معاملة المواطنين الأصليين بقدر خدمة أولئك اللاجئين لمصلحة الدولة المضيفة، والاستفادة من قوتهم الاقتصادية وغيرها من الاعتبارات.
ثم أنّ هناك الشتات الأوسع، حيث نجد من الفلسطينيين من غادر فلسطين طوعاً هروباً من قمع الاحتلال أو سعياً للرزق أو التعليم إلى دول العالم، كما أنّ هناك لجوء ثان من دول الجوار للاجئين إلى خارج تلك الدول، منه ما هو قسري ومنه ما هو طوعي، حيث ارتأى بعض اللاجئين الخروج من حدود المخيم ذي ظروف العيش القاسية، أما طلباً للعلم أو العمل أو للحرية في التعبير، فهاجر عدد كبير منهم إلى الأمريكيتين والدول الأوروبية ودول الخليج وغيرها من دول العالم، ليثبتوا أنفسهم في العديد من مجالات العلم والعمل، فقد تفوق الفلسطيني في جميع الدول وفي جميع المجالات، وأصبح يحمل جنسية تلك الدولة لتسهيل حركته والحصول على حقوق المواطنة، دون أن يتخلى عن فلسطينيته التي تسري في عروقه.
وللحفاظ على هذه الهوية الفلسطينية المتأصلة وجد الفلسطينيون في الشتات أنّ عليهم التمسك بكل ما هو فلسطيني، كنوع من الحفاظ على ارتباطهم بالأرض، وأصبح لديهم ثقافة تجمعهم في جميع أرجاء العالم، وهذا ما يمكن تسميته ب "ثقافة الشتات" في أمور منها الحفاظ على اللهجة والثقافة والهوية والتراث والعادات والتقاليد، وتعزيزالروابط العائلية وما يتعلق بها من المأكل والملبس والحياة اليومية والمناسبات، الأمر الذي ساعد على توحيد المجتمعات الفلسطينية في الخارج.
هذا لا يعني أنّ الفلسطينيين في الشتات لم يندمجوا بثقافات المجتمعات التي لجأوا أو هاجروا إليها كهجرة ثانية، بل على العكس، فقد اندمج كثير منهم في ثقافات تلك المجتمعات للتأقلم والعيش مواطنين كما السكان الأصليين، وهذا سلوك طبيعي يندرج تحت بند خاصية "التأقلم" مع الحياة الجديدة التي اختاروها أو التي فرضت عليهم بشكل أو بآخر، ولكنهم فعلوا ذلك بتوازن وذكاء شديدين، ودون التخلي عن ثقافتهم وأدبهم الفلسطيني، ففي حياتهم الخاصة في بيوتهم، يعلم الفلسطيني أبناءه اللهجة والمفردات الفلسطينية، ويعلمهم العادات والتقاليد الفلسطينية، وتطبخ المرأة الأكلات الفلسطينية أينما كانت، ويمارسون الطقوس الفلسطينية في جميع المناسبات والأعياد، وترتدي المرأة الثوب الفلسطيني في جميع المناسبات الاجتماعية والوطنية، ولا يخلو بيت فلسطيني في الشتات من وجود صورة لمعلم في الوطن كقبة الصخرة مثلاً، أو شرشف طاولة مطرز، أو صندوق مصنوع من خشب الزيتون أو أيّ حرفة اشتهرت بها فلسطين، كما أنّ الفلسطينيين يسعون دائماً وأينما كانوا على الحصول على الزيت والزيتون من فلسطين خلال موسم قطاف وعصر الزيتون، أو الحصول على صفيحة من الجبنة النابلسية من الوطن، كما أنّ ارتداء الكوفية الفلسطينية أو اللفحة الفلسطينية التي تحمل العلم الفلسطيني في جانب، ورمز
الكوفية في الجانب الآخر، هو نهج متبع عند جميع الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم أينما تواجدوا وفي جميع المناسبات والاحتفالات الوطنية، ويقيم الفلسطينيون في الشتات المعارض بمختلف أنواعها، خاصة تلك التي تعرض التراث الفلسطيني والحرف اليدوية الفلسطينية المميزة، مثل السيراميك والزجاج المنفوخ الذي تشتهر به مدينة الخليل، أو المصنوعات الخشبية التي تشتهر بها مدينة بيت لحم، شاملاً عرض البسط (السجاد) الذي تشتهر به مدينة غزة، وكذلك الأكلات الفلسطينية الشعبية والملابس الشعبية المطرزة بطريقة احترافية معقدة سواء من ناحية الألوان أو من ناحية الرسومات وغيرها، وذلك للحفاظ على هذا التراث وتعريف الآخرين في تلك المجتمعات به، ما يعزّز الهوية الفلسطينية ويزيد من ترابط الشتات بالوطن.
كما أنّ الفلسطينيين يستمعون إلى الأغاني والأناشيد الفلسطينية أينما حلوا، ويتلذّذون ويستمتعون بذلك بل ويفتخرون به، كما أنّ متابعة أخبار الوطن نهج متّبع لدى الكثير منهم.
أنّ الإحساس بالوطن حاضر لدى النسبة الأكبر من فلسطينيي الشتات، ما يجعل ذلك عنصراً هاماً في سرد الرواية الفلسطينية المقاومة والمناهضة للرواية الإسرائيلية المختلقة، ومن هنا تأتي أهمية الجاليات الفلسطينية المبعثرة في شتّى أنحاء العالم في إبقاء القضية الفلسطينية حيّة وحاضرة حول العالم، من خلال تمسكهم بأصولهم الفلسطينية، وتربيتهم لأجيال واعية ومتمسكة بالحق الفلسطيني، وبإنشائهم علاقات واسعة مع مناصري القضية الفلسطينية من الأجانب والعرب، واستقطاب مناصرين جدّد لم يعرفوا من قبل الرواية الفلسطينية نظراً لسيطرة الصهيونية على الإعلام الغربي.
ومن هنا تأتي أهمية وجود دائرة شؤون المغتربين التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية للعناية بالجاليات الفلسطينية أينما وجدت، والمحافظة على التواصل معها وإشراكها في القرارات المصيرية، لتشعر جالياتنا أنها جزء لا يتجزأ من هذا الوطن ومنظومته السياسية.