الكاتب: عيسى قراقع
ثلاث حكايات للفتيان أصدرها الأسير المفكر وليد دقة الذي يقبع في سجون الاحتلال منذ 37 عاماً، وهي: سر الزيت وسر السيف وسر الطيف، وربما هناك أسرار أخرى لا زال دمه يحتفظ بها قبل أن يكتشف أطباء السجون أنه مصاب بسرطان الدم، وأنه سيبدأ بالعلاج الكيماوي وهذا ما يخشاه وليد على النصوص المتبقية من أن يقتلها هذا الكيماوي ويقتل أبطال الحكاية القادمة فلا يصلون إلى الذروة في الخاتمة.
سرّ الدم هي الحكاية الرابعة الآن، وقد نضجت تماماً عندما ولدت طفلته الجميلة ميلاد بتلك النطفة المهربة التي اخترقت الجدران والظلمات وتكونت على صفحة الحياة بعد أن تفوقت على العدم والمرض والنسيان وجفاف المخيلة.
حكاية سر الدم، كتبت من إرادة وملح وماء، خرجت من الفراغ السرمدي إلى فضاء باقة الغربية وحيفا وعكا وصعدت على موجات البحر المتوسط يرددها اللاجئون والضحايا العائدون كأغنية، يرددها الأطفال بين المد والجزر في شوارع الأرض المحتلة في النوم واليقظة.
هي انتفاضة الدم والشهداء والمقاومة والشجاعة، انتفاضة ضد سرطان المحتلين ووبائهم وجنونهم، دماء وليد دقة المتهيجة المتحررة المتمردة على نظام صهر الوعي والجسد والقهر والموت في السجون والمعسكرات التي تشبه المقبرة.
حكاية سر الدم للأسير وليد دقة لم تكتب بالحبر بل بالدم هناك وهنا في شوارع نابلس وجنين ورام الله واللد والنقب والقدس والخليل وفي كل مدينة وقرية ومخيم، أجيال تتحدى الموت بهذه الأرواح المبدعة.
الأسير وليد دقة رغم السجن والمرض والغياب الطويل لا زال يكتب فوق الحديد، لا زال يشعر أنه يطير ويعرف كيف يطير، يصل الأرض الثقيلة بأحمال الشهداء في الحكاية، جاذبية وطاقة ترفع الجبال، إرادة تقول: ما أريده الآن أريده غداً، وسأكون حيث أكون في الزمان وفي جميع الأمكنة وفصول الرواية.
حكاية سر الدم للأسير وليد دقة كشفت تلك السموم الكثيرة المنتشرة في أجساد الأسرى، الجرائم الطبية المتعمدة، القتل البطيء، الليل الأسود والهواء المشبع بالغاز والاختناق، رحلة جهنمية في المؤبدات وعذاب الآخرة.
ماذا تقول حكاية سر الدم؟ الاحتلال هو وباء العصر، وما عليك سوى بزيت أم الرومي، تلك الزيتونة العتيقة، تنجيك من الموت والمسافات المحاصرة، أقفز عن الجدار يقول وليد، أكتب بدمك، ستجد أن الدم هو الروح، هناك من ينتظرك، البيت والبرهان والحقيقة، هناك كواشين جدودك، الطابو وتاريخ الميلاد، أيقظوا القبور، فقد طفح الدم ودنت ساعة العودة والنشور.
حكاية سر الدم تكشف عن ذلك السجان غير المرئي الكامن في نفوس الضعفاء، المتغلغل في العقل والروح تاركاً الجسد يرتخي في امتيازات السجن الاقتصادية، الرفاهية على حساب الحقوق القومية والسياسية، الحرب على الوعي، التعذيب الملجوم الذي يستهدف صناعة أشخاص مدجنين مهزومين مطبعين مع الأمر الواقع، الفردانية والمصالح الضعيفة، إنها نظرية سعادة السجين بالسجن، العيش تحت الأرض كدودة تمتص نفسها وتصير لا شيء في الرطوية المتعفنة.
لن ينفع العلاج الكيماوي مع وليد دقة، دمه خارج أنظمة العلاج وتنبؤات الطبيب السجان، دمه يصنع فكراً وإدراكاً وقنبلة، دمه لا يشخص ولا يحلل ولا يخضع للرقابة والمعاينة، دمه يفور بالحياة في كل فلسطيني وفي الأجيال المقبلة، دمه تحمله طفلته ميلاد، الحرية والحياة والكرامة والجمال والسيادة.
حكاية سر الدم، هي حكاية كل فلسطيني، المحشور بين حاجز إسرائيلي وآخر، بين مستوطنة ومستوطنة، المغلق في المعازل والغبار والأوبئة، الملاحق والمطارد والمعدوم على الأرصفة، الفلسطيني الذي بنى من دمه خط الدفاع الأخير، الحرية من الوريد إلى الوريد أو الشهادة.
وليد دقة الأسير الذي أصاب المحتلين بالإرهاق، لم يلقوا القبض إلا على جسده، ظل عقله حراً وسط المعاناة والآلام، احتارت الأجهزة الطبية وتقارير أجهزة الأمن وكافة العلوم ونظريات الفلاسفة، هذا الأسير لم يسقط، لا زال يكتب ويغني ويؤلف لزمن آخر يراه ولا نراه، لا زال يجدد الصور ويبدلها ويفك القيد، لم يستلسم لجدار السجن ولا لليأس والبلادة، هنا دمه الأحمر الساخن يتجدد ويعلن الرفض، وهناك طفلته ميلاد وزوجته سناء، فإذا ضاقت الأرض فأهلاً بالسماء.