الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
لا أحب الرثاء ولا أجيده. وانا أكتب هذه المقالة فور عودتي من المقبرة بعد دفن صديق العمر عدنان عطية، عميد شؤون الطلبة في جامعة بيت لحم .
كنا ثلاثة أصدقاء انا وعدنان والراحل أمجد فرج. رحل عدنان وامجد وبقيت أنا اشرب حسرتهما. وحدي مع الأيام، وحدي مع الأحلام ، وحدي مع الذكريات العطرة .
معظم أصدقائي في مقابر الشهداء أو أسرى داخل زنازين الاحتلال. ولكن موت الصديق يكسر الظهر ويوقف عقارب الساعة. موت الصديق يعني ان تفقد تاريخك كله ، مثلما تمسح الذاكرة من الكمبيوتر وتفقد كل شيء ، وتحاول ان تبدأ من جديد . وحدك تشرب همومك بلا رفيق .
حين توفي والدي لم أشعر بمثل هذا الألم . وحين توفي أمجد فرج بمرض السرطان وهو في اول الثلاثينيات من العمر ، مكثنا انا وعدنان ليلة كاملة بصمت . ولم نعرف ماذا نقول !.
كنا ثلاثة أطفال في أزقة شوارع مخيم الدهيشة. قطعنا الاف الكيلومترات جيئة وذهابا من جبل أنطون وحتى الكسارات، ومن السندكة وعين الماء حتى دير ارطاس نبحث عن إجابات لسؤال واحد : ماذا نفعل لتغيير الواقع الذي لا يعجبنا .
تارة هتفنا لنلسون مانديلا ، وتارة لجمال عبد الناصر، وسريعا قرأنا كتاب الام لمكسيم غوركي، وكتاب سقينا الفولاذ لنيقولاي استروفسكي. واكتشفنا ان منازل المخيم مليئة بكتب دار التقدم والاشتراكية فاعجبنا وديع حداد وليلى خالد. ولكن حين جمعنا كل مصروفنا المدرسي لنشاهد فلم 21 ساعة في ميونخ في سينما بيت لحم أعجبتنا فتح .
كنا اصغر من ان نأخذ قرارا فكريا واضحا. ولكننا ألقينا بأنفسنا بكل قوة في نهر الحركة الوطنية والتنظيمات. فجرى اعتقالنا وتعذيبنا في عمر 14 عاما. ما جعل الأمور أوضح وجعل القرارات أسهل وجعل الحياة أصعب .
فشلنا في الانضباط رغم تفوقنا الاكاديمي في المدارس. ونزلت علينا أشد العقوبات وتم نقلنا من مدرسة الى أخرى بتهمة الانتماء لاتحاد الطلبة. كنا نخشى أهالينا أكثر مما نخشى الاحتلال .
أمجد كان حاد الذكاء وسليط اللسان وحين نتجادل كان يهزمنا . وعدنان كان يحب الفلسفة بشكل كبير وحين يبدأ الكلام نفتعل انا وأمجد مشكلة صغيرة حتى نتخلص من محاضراته . وانا كنت أحب المناسبات والمشاوير البعيدة لاكتشاف المجهول . كنت انا أجبرهم على السير معي الى مشوار لا يرغبون به ، وفي الطريق يتسلط علينا أمجد ساخرا ، ويرد عدنان برؤية فلسفية سمع عنها من شقيقه الأكبر إسماعيل .
دخل الى شلتنا عشرات الأصدقاء وخرجوا. وبقيت انا وامجد وعدنان على العهد . ثلاثة رفاق يجمعهم الفقر ووحدة الحال ووحدة المصير .
وحتى حين وافقنا على الانضمام الى الحزب تشاورنا . ولكن الحزب لم يعجبه هذه الصداقة القوية فقاموا بتفريقنا كل واحد في خلية . ولكننا من وراء ظهر الحزب كنا نلتقي ونبوح لبعضنا بكل الاسرار ونضحك حتى ننسى .
خرجنا من السجن والتقينا في منع التجول في منزل الصديق عاهد العيسة . وهناك قررنا الكف عن الركض ، والاقتران بشريكات حياة . تزوجنا وصار لنا عائلات وأطفال ومشاغل وهموم . لم نعد نلتقي مثلما كنا من قبل ، ولكن أي لقاء عابر كان يجمعنا كان كافيا لاشتعال شرارة الصداقة أقوى من ذي قبل .
قبل اشهر اصبت بجلطة وكدت اموت . وجاء عدنان مسرعا ليطمئن علي ، فعادت الابتسامة الى وجهي .
بعد يوم واحد فقط من هذه الزيارة قيل لي انه أصيب بالسرطان ولن يصمد سوى عدة اشهر . فذهبت اليه فورا لأرد عليه الابتسامة والحب والوفاء .
هو لم يتغير وانا لم أتغير . عدنان عرف انه سوف يموت بعد ثلاثة اشهر ، ولكنه واجه الموت بثقافة عالية وفكر منير . وقفز عن الامر الى ابعد من هذا بكثير .
اخر مرة قال لي امام اخوته وعائلته : يجب ان نلتقي انا وانت لوحدنا لنتحدث في أمور كثيرة .
ومضى، قبل ان نلتقي .