الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

جنين أيقونة نضال وتضحية

نشر بتاريخ: 21/12/2022 ( آخر تحديث: 21/12/2022 الساعة: 17:44 )

الكاتب: وسام زغبر


لا يكاد يوماً يمضي إلا ونسمع ونشاهد خبراً عاجلاً مفاده أن «إسرائيل أعتدت (بالقتل أو الاعتقال أو الاصابة... الخ) على فلسطيني هنا وهناك»....
في فلسطين تفوح رائحة البارود والرصاص في كل مكان ويعيش سكانها حياتهم على طريقتها الخاصة، لم نعد نسمع أو نرى سوى زغاريد في مشافي ومواكب ووداع الشهداء...
الاحتلال يقامر على كل فلسطين، بخوضه سياسة عدوانية متدحرجة متبعاً سياسات التوسع الاستيطاني، الضم الزاحف، القتل والإعدامات، هدم المنازل، تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، التنكيل بسلطة الحكم الإداري الذاتي، والبحث عن بدائل سياسية تصفوية لأية تسوية متوازنة كـ«الحل الاقتصادي» في الضفة، و«الأمن مقابل الغذاء» في غزة، يراهن فيها على استمرار الانقسام الفلسطيني والصراع على السلطة بأشكاله المتعددة.
الاحتلال بدأ معركته ضد المقاومة الفلسطينية، معركة يسعى فيها لكسر شوكة الجارتين جنين ونابلس بعد ضمان الهدوء في غزة، فكل يوم شهيد، شهيد يودع شهيد، شهيد يوصي بشهيد، حتى أضحت الجارتين تسميتهما «بلد الشهداء». حيث أفادت وزارة الصحة الفلسطينية أن حصيلة الشهداء شهدت ارتفاعاً حاداً منذ بداية العام الجاري وصلت إلى 217 شهيد بينهم 165 شهيداً في الضفة لوحدها حتى كتابة المقال في 11 كانون أول (ديسمبر) 2022.
أمام تلك الاحصائيات، أضحى من المعيب وطنياً وأخلاقياً أن تواصل الأجهزة الأمنية الفلسطينية التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال في الضفة في حين أن الأخيرة تغتال أبناء شعبنا، ولم يعد مفهوماً أن تواصل القيادة الرسمية علاقاتها مع دولة الاحتلال ورهاناتها الخاسرة ولهاثها وراء «أفق سياسي»، ولم يعد مفهوماً غياب خطط التحرك الشعبي للانخراط في المقاومة الشعبية في غزة، ومن المعيب أيضاً استمرار تدفق بضائع المستوطنات والبضائع الإسرائيلية إلى الأسواق الفلسطينية، واستمرار الانقسام لعقد ونصف العقد وتغيب أشكال التنسيق النضالي بين الضفة والقطاع، في حين تتسع القاعدة الجماهيرية للمستوطنين ونفوذها وانتقالها إلى الفعل المؤثر في الحالة السياسية عبر تشكيلات لميليشيات منظمة ومسلحة تدعو لحلول صفرية للصراع يقوم على الاستيلاء على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 67 وانتزاعها من أصحابها ومالكيها وطرد الفلسطينيين وتهجيرهم لخارج فلسطين.
ومن المفيد أيضاً استثمار حملات التضامن الكبيرة للجماهير العربية التي هتفت وتهتف لفلسطين وحريتها على مدرجات وملاعب مونديال كأس العالم في العاصمة القطرية الدوحة، ورفعت الأعلام الفلسطينية، والتي أرسلت عدة رسائل للاحتلال أن فلسطين وحقوق شعبها كانت وستبقى القضية المركزية للشعوب العربية. استثمار ذلك التضامن بالانفتاح على الأحزاب والشعوب العربية للضغط على الأنظمة العربية والمسلمة لإغلاق بوابات التطبيع والعلاقات مع النظام الفاشي العنصري في إسرائيل.
شهيد، أسير وجريح، هذا واقع فلسطين بعاصمتها وبمدنها وقراها ومخيماتها وأزقتها، من جنين ومخيمها، نابلس وبلدتها، وقطاع غزة ومدنه، وصولاً إلى شتات أبنائها حيث يتعاظم دورهم النضالي في معارك التاريخ والصراع الطويل دفاعاً على الهوية والأرض والشعب والحقوق الوطنية المشروعة.
نتذكر جنين تلك المدينة الشامخة، وكيف حاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي في شهر نيسان عام 2002 مخيمها أي قبل 20 عاماً بالدبابات والجرافات والجنود الغزاة، وزرع في أحشائها القنابل والرصاص، وأراد أن يُدمر كل شيء فيه حتى ذكرياته الجميلة، إلا أن المخيم أراد أن يُلملم جراحه ويعيد بناء ذاته بإرادة أبنائه.
جنين تودع الشهيد يلو الشهيد، شهداء جنين حالهم وشكلهم يختلف عن باقي شهداء فلسطين، في شوارع وأزقة جنين تشتم رائحة الموت في كل مكان. كل بيوت جنين تعيش الموت وتودع أبنائها الشهداء، ولكن للحياة في جنين طعم آخر، فهي محاطة بوابل من الآلام والأمال معاً.
للحياة طعم آخر في جنين، والتي شارك شاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش أبطال مخيم جنين مقاومتهم قائلاً: «اتصل مقاتل من مخيم جنين المحاصر بصاحبه خارج المخيم.. قائلاً: أحك لي نكتة لأضحك قبل استشهادي، قال صاحبه: كيف تضحك وأنت على حافة الموت، فقال: لأني أحب الحياة وأريد أن أودعها ضاحكاً».
جنين خزان الثورة والانتفاضة الفلسطينية، جنين أيقونة نضالية في العطاء والتضحية، ولها أن تفخر بأبنائها الشهداء، ففيها استشهد عز الدين القسام في جبال يعبد خلال مواجهة واشتباك مع قوات الانتداب البريطاني عام 1935، وأحمد نزال الذي قاوم الاستعمار البريطاني مع القسام ورفاقه، وفيها ولد الشهيد خالد نزال قائد قوات اسناد الداخل في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وفي جنين استشهدت الطالبة منتهى الحوارني بعد دهسها من إحدى آليات الاحتلال خلال قيادتها مسيرة طلابية عام 1974 وفيها استشهدت أيقونة الصحافة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وفي جنين ولد وترعرع أسرى سجن جلبوع، وتصحو كل يوم في جنين على خبر شهيد أو معتقل أو جريح.
جنين لا تستطيع أن تصفها الكلمات والمرادفات، والتي عبر عنها المخرج الفلسطيني محمد البكري وهو صاحب الفيلم الشهير (جنين جنين) قائلاً: «ليس فقط الموت، كانت التفاصيل الصغيرة تقتلني، أتذكر ذلك اللاجئ الذي قال لي عن صدمته عندما أفاق صباحاً ووجد منزل جاره كومة حجارة».
الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده في حالة اشتباك ميداني مباشر مع المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني متكامل الأركان، وتُصارعنا الحركة الصهيونية على هويتنا وروايتنا، فإما نحن وإما هم، لكن الشاعر محمود درويش ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال إن (فلسطين لا تتسع لهويتين فإما نحن وإما نحن). لذلك امتشق شعبنا سلاحه واختار طريقه مبكراً في مقاومة الاحتلال والاستيطان والدفاع عن حقوقه وكرامته وعن نفسه بعد تلهي قيادته في معارك الرهان على بقايا اتفاق أوسلو ووعود أميركية خاسرة، وتلهي أطراف الانقسام بالحسابات الضيقة وغنائم السلطة على حساب المشروع الوطني.
أبطال المقاومة يتقدمون على القيادة السياسية في السلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية في مقاومة الاحتلال على طريقتهم الخاصة والدفاع عن فلسطين، في تشكيل القيادات الميدانية للمقاومة الشعبية، ولن ينتظروا طويلاً حتى تستفيق السلطة من غفوتها لتشكل قيادة وطنية موحدة للمقاومة الشعبية الشاملة في كافة جبهات الصدام مع الاحتلال، وتوفر الحماية السياسية والأمنية لها باعتبارها صيغة حرب التحرير الشعبية لشعبنا لتقود نضاله وانتفاضته للتحرر من نير الاحتلال والاستعمار الاستيطاني.
رغم الآلام والأوجاع في جنين إلا أن شاعر فلسطين سميح القاسم كان له رأي آخر قائلاً: «ياوجع قلبك يا جنين .. وأنتِ كل يومٍ تودعين بطلاً من رجالك .. وتبكين بحرقةٍ على فتية بعمر الورد .. ويا عزك يا جنين وأنتِ تكتبين بدمكِ تاريخاً مُشرفاً لشعبٍ يموت من أجل حريته .. جنين ستبقى نافذة فلسطين المشرقة نحو الاستقلال والأمل والغد الأجمل!». ■