الإثنين: 13/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

أنا واللغة والحساب وأبي

نشر بتاريخ: 24/12/2022 ( آخر تحديث: 24/12/2022 الساعة: 20:03 )

الكاتب: تحسين يقين


كان يكتفي والدي رحمه الله بالاطمئنان على العربي والحساب، ويسعد بأنني "ممتاز" فيهما، كان في أول الستينات من عمره ونحن طلبة المرحلة الابتدائية.
كنا نعود الى البيت فرحين نركض، مبتسمين، ونحن نقدّم "الشهادة" لآبائنا وأمهاتنا وأخوتنا وأخواتنا الأكبر منّا، وسنة بعد أخرى، وشهادة تلو شهادة، صرت أدرك اهتمامه بهذين المبحثين، وكان بالطبع يسعد لباقي "الممتازات".
كم كان الأولاد يحبون الإجازة الصيفية: ثلاثة أشهر بدون واجبات مدرسية وبدون امتحانات وبدون قيود المدارس والصحو مبكرا، وبدرجة أقل الإجازة الشتوية: ثلاثة أسابيع ننعم بها بالدفء والكانون الصباحي والشاي والأطعمة، كذلك كانت لنا فرحتنا ليس فقط بيوم الجمعة، بل بيوم الخميس لأنه نصف يوم، بثلاث حصص فقط وفرصة حتى آخر النهار، أما أنا فكنت أجب يوم الأربعاء أيضا، لأن الخميس نصف اليوم الدراسي يتبعه.
ما أذكره جيدا هو حب الدروس التي فيها سرد، كالعربي والدين والتاريخ؛ فمثلا كانت تلتقي دروس السيرة في الدين والتاريخ، كذلك أحببت الحساب، لأنه سهل ليس فيه حفظ ما عدا "السيد جدول الضرب"، الذي تعرضنا جميعا للضرب بسببه، وأحببت في حصص العلوم عالم النبات والحيوانات، والتجارب، وأحببنا الفن والرياضة لأنها ليست دروسا للحفظ وليس فيها واجبات منزلية.
لم أكد أصل البيت بعد العطلة الصيفية بشكل خاص، وأنا العائد من المدرسة، جامعا الأوراق البيضاء مما تبقى من دفاتر الأولاد، التي في كل عام "يثلجون" الأرض بأوراق الدفاتر تمزيقا، حتى أرتب أوراقي ودفاتري في جزء صغير من البيت، لأقبل شغوفا على قراءة الكتب التي أفهم ولا أفهم، وكم كنت أحب القصص والروايات وكل ما يتعلق بالسرد، وكان الراديو القديم بما يبثه من سرديات وبرامج أطفال وتمثيليات إذاعية جليسا رائعا تما مثل الكتاب الموصوف بخير جليس في الزمان. كنت أقف على الكرسي حتى أستطيع فحص الكتب، لاختيار واحد جديد، أو لأمرّ على كتاب قرأته، كأنني أطمئن على عوالمه. بضع سنوات ربما عقدا أو أكثر، بمعنى أنني صرت أستغني عن الكرسي، والأهم صرت أسعى وراء الكتب في مكتبة المدرسة، التي تعني الثلاثة رفوف، ثم مكتبة الجامع ذات الرف الواحد، ثم ما تقع عليه عيني في مكتبات بيوت الأقرباء.
تلك إذن هي اللغة!
اللغة كانت أكبر مفتاح سحري في حياتي!
فماذا يمكن أن نقول ذاتيا وموضوعيا وتربويا في اليوم العالمي للغة العربية؟
حينما تعلمنا الحروف في كتاب الجديد للعبقري خليل السكاكيني، كنت أشعر بسحر كل حرف، ومع كل حرف جديد، كنت وكنا نتابع اللعب بالحروف، إلى أن كان آخر درس في الصف الأول، حيث كنت قادرا أن أقرأ وأكتب، ما عدا ال التعريف التي تعلمناها في الصف الثاني.
في أول الصف الثاني، بعد تعلم ال التعريف، قلت لنفسي بثقة كبيرة، الآن أستطيع أن أقرأ كل الكلام، وأكتبه، وكم طلب مني الأهل أن أقرأ من أي نص، ومن الجريدة، حتى صارت كبيرات السن يستكتبنني لكتابة الرسائل، وقراءة ما يصلهن، وبذا دخلت عالم الكبار قبل غيري.
ماذا أفعل بهذه المهارة: القراءة والكتابة؟
ذلك دوما كان سؤالي لنفسي، وفعلي في البحث عن المقروء، ساعدني المسموع في الراديو، ثم المرئي حين تيسّر، وتلك قصة سنفرد لها فصلا وحده، وذلك كان الشغف، حيث يبدو أنني كنت أستمتع بالقصص وأقوى بالمعلومات الأخرى.
لذلك احتجت عمرا حتى فهمت اهتمام أبي بالعربي والحساب!
هل كان أبي خبيرا تربويا؟
كان والدي طالبا في المدرسة الرشيدية الحكومية بالقدس قبلي بنصف قرن، حيث لم يكتف جدي ذياب منصور بتعليمه بالكتّاب، وعليه فقد أوفد جدتي نجيبة العبد الله، لتقيم مع طفلها في البلدة القديمة، وليستمر ذلك خمس سنوات، ليحمل معه والدي الطفل-الفني من عشرينيات القدس وعيا ثقافيا، فيحدثنا عن موجه اللغة العربية آنذاك محمد إسعاف النشاشيبي، حيث كان ناصر الدين النشاشيبي ابن أخته زميلا لوالدي، وليروي لنا حكايات من منظور ذلك الطفل، الذي يكبر فتظل القدس مدينته كما بيت دقو قريته؛ فمن أقام فيها 5 سنوات لا بدّ خبرها. وما زلت أتذكر يوم اصطحبني يوما ليرينا البيوت التي سكنها مع جدتي، وأحيانا حين كانت جدتي تستأمن عليه الجيران لبعض الأيام.
لذلك كان والدي ممتازا في اللغة والحساب، وكان يحب مهارتي فكان يوكل لي حساب "العنب" فيما بعد. وكان يتأملني وأنا أستمع للراديو، لكن حين اقتينا التلفزيون متأخرين لم يحب أن تطول المشاهدة، حتى لا ننشغل عن واجبات المدرسة.
وهكذا، فقد كانت اللغة المقروءة بشكل خاص أحد جوانب تكويني وتقويتي، بما أقرأ، كنت أشعر أن عمري صار كبيرا، وأن اهتماماتي تطورت، كذلك تعمقت مشاعري خلال قراءة القصص والروايات، والأفلام والمسلسلات فيما بعد، حيث كنت كأنني أدخل تلك السرديات، بل أكون منهم، وكم من مرة كنت أترك كتب جبران جانبا لأبكي، نعم وتنزل دموعي، ثم لأعود الى النصوص من جديد. كانت اللغة مفتاح عوالم الشعور على تعدديتها.
لذلك فمن يريد أن يتعامل مع الطفل، فعليه باللغة أولا لأجلها مرة، ولأجل أنها هي مفتاح المباحث الأخرى. كانت مواد الدراسة الدين واللغة العربية والحساب والاجتماعيات والعلوم والرياضة والفن، وأضيفت اللغة الإنجليزية ابتداء من الصف الخامس.
والحق، وهنا أترحم على المعلمين، وحفظ الله من بقوا؛ فقد كانت حصة العربي عربي وحصة باقي المباحث أيضا عربي. كيف؟ كان المعلمون يركزون حتى خارج حصة العربية على الكتابة والقراءة، وبذا كان ذلك تقوية للطالب في اللغة والمباحث الأخرى.
فيما بعد، سنكتشف أن من كان يمتلك اللغة كان أكثر قدرة في التعلم، وهكذا، كان المعلم مثلا يراجع لنا خلال أيام ما تعلمناه في السنة الماضية قبل البدء بمهارات جديدة.
كن المعلمون يعلموننا من مناهج ربما بسيطة، لكن بسبب جديتهم تعلمنا، فأبحر من أراد في بحور الكلمات.
واليوم، لعل وزارات التربية والتعليم في العالم، ومنها بلدي فلسطين، أن تفكر بتعليم اللغة اليوم، بما يجعل الطالب أكثر قوة وحضورا. قراءة وفهم وتحليل وتذوق حسب عمره، وتنمية كتابته لا النسخ والمحفوظات فقط، ليتعلم بناء العبارة والفقرة، باستمرار حتى إذا ما كبر واشتد عوده، يكون قادرا على التعبير عن فكرته ومشاعره بدقة شفويا أمام الجمهور وكتابيا، لكن بلغته هو لا اللغة المتكلفة، ويكون ذلك من خلال اختيار نصوص بلغة عصرنا، حتى إذا كبر نمرر له بعض النصوص من أزمان أخرى، بحيث لا تقتصر فقط على الأدب، بل والفكر أيضا، فيحضر عنترة ويحضر ابن خلدون، ويحضر تولستوي ونجيب محفوظ ومحمود درويش وسارتر وماري كوري.
هي اللغة مفتاح المعرفة، والأدب والعلوم، والرياضيات، والفن والفلسفة، ولن نحدث اختراقا إلا إذا حببنا الأطفال بالنصوص وطريقة تعليمها. وهنا لعل الكبار والخبراء من التربويين واضعي المناهج يتذكرون طفولتهم، لربما من ذلك التذكر، يصيرون أكثر توفيقا في كل ما قلناه، لأن تعليم اللغة جزء من منظومة التعليم والمعرفة.
[email protected]