الإثنين: 13/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

الشخصيات المضطربة

نشر بتاريخ: 03/01/2023 ( آخر تحديث: 03/01/2023 الساعة: 12:11 )

الكاتب: ياسمين نبيل

في حياتنا الاجتماعية والمهنية صنوفٌ من الشخصيات المتنوعة، فنصف أحدهم بالاجتماعي المحبوب، والآخر بالمنطوي الخجول، وثالث بالمندفع الحاد، وقد نشعر بالضيق من التعامل مع الشخص الشكاك، وتنتابنا الريبة من التعامل مع غريب الأفكار والأطوار، ومن المتوقع أن يمسنا الأذى من الشخص العدواني والنرجسي...الخ، إنها الشخصيات إذاً، عالم من الأنماط الثابتة في الأفكار، والمشاعر، والسلوك لدى الأفراد، والتي تحدد طابعهم الفريد في التوافق مع بيئاتهم، وقد تُوصف الشخصية أحيانًا بسمات معينة بالتركيز على الجانب الجسدي، أو العقلي، أو الاجتماعي، أو الانفعالي.

في الواقع، إن التنوع في الشخصية هو ديدن الطبيعة الاجتماعية للأفراد، غير أننا قد لا ندرك أحيانًا بأننا نتعامل مع شخصية مضطربة! تحتاج إلى خدمات الصحة النفسية؛ لمساعدتها على تخطي اضطرابها للاندماج بشكل سوي في المجتمع، وتقليل المعاناة لها وللمحيطين بها، في هذا المقال سأسلط الضوء على ماهية اضطرابات الشخصية، بالتعريج على أنماطها، وأسباب تشكلها، وسبل تشخيصها، وعلاجها.

يعـد اضطراب الشخصية أحد أنواع الاضطرابات العقلية، التي يعاني فيـها الفرد من تصرفات، ونمط تفكير غير صحي ومتصلب، ويواجه مشكلات في فهم المواقف، والأشخاص والتعامل معهم، وفي إقامة العلاقات والأنشطة الاجتماعية، وقد لا يدرك الشخص أن معاناته ناجمة عن اضطراب شخصيته؛ لأن طريقة تفكيره، وتصرفه تبدو طبيعية بالنسبة له، وغالبًا ما يلقي باللوم على الآخرين في التحديات التي تواجهه.

في وصفه لاضطرابات الشخصية، يقدِم التصنيف التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM5) صورة عامة لاضطرابات الشخصية على أنها نمط دائم من الخبرة الداخلية والسلوك، والذي ينحرف بشكل ملحوظ عما هو متوقع من الفرد بحسب ثقافته، ويتجلى هذا النمط في اثنين (أو أكثر) من المجالات الآتية: الإدراك، والاستجابة العاطفية، والأداء الاجتماعي، والسيطرة على الاندفاعات، ويكون هذا النمط ثابتًا ومستمرًا لمدة طويلة، ويمكن تتبع بداياته من مرحلة المراهقة، ويؤدي إلى إحباط اجتماعي أو مهني عام، وتُقسم اضطرابات الشخصية بحسب هذا التصنيف إلى ثلاث فئات، هي:

الفئة الأولى هي الشخصيات الشاذة وغريبة الأطوار، وتتضمن: اضطراب الشخصية البارانوية؛ حيث يتصف أصحابها بالارتياب والشك في الآخرين، ويفسرون دوافعهم على أساس من سوء النية. واضطراب الشخصية الفصامانية، التي تتسم بنمط شامل من العزلة عن العلاقات الاجتماعية، وضيق في مدى التعبير الانفعالي في المواقف الشخصية. واضطراب الشخصية الفصامي النمط، وتُعرف بأنها نمط شامل من الخلل الاجتماعي والشخصي، والذي يتميز بانزعاج حاد من إقامة تلك العلاقات، بالإضافة إلى انحرافات معرفية أو إدراكية وغرابة في السلوك؛ كالإيمان بالخرافات والمعتقدات الغريبة.

والفئة الثانية هي الشخصيات التي تتصف بالتهويل والانفعالية وعدم الاتساق، وتتضمن: اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، المتصفون بالاستهانة بحقوق الآخرين وانتهاكها، والفشل في الامتثال للمعايير الاجتماعية والقانونية بشكل عام. واضطراب الشخصية الحدية، التي تتسم بعدم الاستقرار في العلاقات مع الآخرين، وفي صورة الذات، والاندفاعية الواضحة، ويتملكهم الشعور بالوحدة والفراغ الداخلي حتى بوجود العائلة. واضطراب الشخصية الهيستيرية؛ حيث الإفراط الانفعالي وجذب الانتباه بالتعبير العاطفي يبدو جليًا على هذه الشخصية. واضطراب الشخصية النرجسية، المشبعة بشعور العظمة وعلو الشأن، سواءً في الخيال، أم في السلوك، مع نقص كبير في التعاطف مع الآخرين، وفرط الحساسية لتقييمهم من قبل الآخرين.

أما الفئة الثالثة شخصيات تتصف بالخوف والقلق، وتتضمن: اضطراب الشخصية التجنبية؛ حيث يميل هؤلاء الأفراد إلى تجنب الانخراط بالنشاطات المختلفة؛ خوفًا من تعرضهم للنقد من قبل الآخرين، وشعورهم بعدم الكفاية. واضطراب الشخصية الاعتمادية، وتظهر لديهم حاجات ثابتة وشاملة بأن يتم التعهد بهم بالرعاية؛ ما يؤدي إلى تعلقهم بالآخرين والخضوع لهم، والخوف من الانفصال عنهم. واضطراب الشخصية الوسواسية القهرية، وتتسم بنمط ثابت من الانشغال بالانتظام، والكمال، والاتقان، على حساب المرونة، والانفتاح، والفاعلية، ويهتم هؤلاء الأفراد بالتفاصيل، أو القوانين، أو الترتيب، أو التنظيم؛ المبالغ فيه، ما يؤثر على علاقاتهم الاجتماعية وعلى فعاليتهم الإنتاجية.

وبعد استعراض أنماط اضطرابات الشخصية، قد يتساءل القارئ عن العوامل المسببة لتلك الاضطرابات، ويمكن القول في هذا الصدد بأن الجزم حول الأسباب الدقيقة لاضطرابات الشخصية غير واضح، ومع ذلك تؤكد الدراسات على أن خبرات الطفولة الصادمة، والأحداث السلبية كفيلة في الإصابة بهذه الاضطرابات؛ كالتعرض للعنف الجسدي، والنفسي، والاعتداءات الجنسية.

يُعد تشخيص اضطرابات الشخصية أمر شائك في كثير من الأحيان؛ لسببين أحداهما يتمثل في تشابه واختلاط الأعراض بين اضطرابات الشخصية ذاتها، وبينها وبين الاضطرابات الأخرى، كاضطرابات الفصام، واضطرابات الاكتئاب، واضطرابات ثنائي القطب، واضطرابات القلق، واضطرابات استعمال المواد، واضطرابات ما بعد الصدمة، واضطرابات القلق.

والسبب الآخر في صعوبة تشخيص اضطرابات الشخصية يعود إلى طبيعة هذه الاضطرابات؛ فهي عبارة عن أنماط متجذرة لدى الفرد لا يشعر بأنها تمثل له مشكلة، بل إن مواجهتها تعد تهديدًا لذاته، وهذا ما يفسر أن غالبية الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية لا يتعاملون أبدًا مع خدمات الصحة النفسية، ومع ذلك فإن التنوع في استخدام أدوات التشخيص النفسية كفيلة بالكشف عن هذه الاضطرابات؛ كاستخدام المقابلة، والمقاييس النفسية المقننة، وقوائم جرد التقدير الذاتي، والاختبارات الإسقاطية، وغيرها.

وفي الختام، أود التأكيد على أن حياة الاشخاص المصابين بهذه الاضطرابات ليس مقدرًا لها أن تتسم بالمعاناة والتعاسة الأبدية؛ فقد بينت الدراسات النفسية أن التعامل مع هذه الاضطرابات ممكن، ويُعد الإرشاد المعرفي السلوكي بما يضمه من فنيات متعددة: كمراقبة الذات، وإعادة البناء المعرفي، والتعريض، والواجبات المنزلية، والحوار السقراطي، إضافة إلى استراتيجيات المواجهة كالتدريب على الاسترخاء، والتدريب على المهارات الاجتماعية، والتدريب على حل المشكلات، فاعلاً إلى حد كبير في إرشاد ذوي اضطرابات الشخصية، فإذا ما تلقى الشخص الإرشاد النفسي المناسب مع توافر الإرادة لديه بضرورة التغيير، وبالدعم المجتمعي المطلوب، فإن تغيرًا نوعيًا سوف يطرأ على حياة هؤلاء الأفراد وعلى أسرهم، نحو مزيد من التكيف الذاتي والاجتماعي، وهو غاية الإرشاد النفسي ومبتغاه.