الكاتب:
الكاتب: د. راسم بشارات مختص في الشأن البرازيلي
القى الرئيس البرازيلي المنتخب لويس ايناسيو لولا دا سيلفا عصر يوم أمس الاحد 1/1/2023 خطاب التنصيب في برازيليا وسط حضور رسمي وشعبي، وهو بذلك يصبح الرئيس التاسع والثلاثون للبرازيل منذ تأسيس الجمهورية بتاريخ 15 نوفمبر 1889 عندما تم الانقلاب على الامبراطور دون بيدرو الثاني في ريو دي جانيرو عاصمة الامبراطورية آنذاك، ويشغل الرئيس لولا المنصب للمرة الثانية حيث فاز في دورتين سابقتين ٢٠٠٣ – ٢٠١٠.
الجانب الاكبر من الخطاب ركز على الوضع الداخلي البرازيلي بشكل موسع، وهو قريب من خطابه الذي القاه عند تنصيبه عام 2003، لكن خطاب الامس تميز بمهاجمة سياسات الرئيس السابق اليميني جايير بولسونارو الذي كان مؤيدا لاسرائيل. بدأ الخطاب بالحديث عن اعادة الامل والبناء والتطوير والتركيز على الحقوق الاجتماعية، الصحة، التعليم، وتقييم الحد الادنى للاجور، كما أكد على حلمه بوطن كريم مؤكدا على أن حكومته ستعمل على توفير الفرض لابناء البرازيل والحد من الفقر.
على الصعيد الدولى أكد الرئيس لولا في خطابه على انه سيسير على نفس نهجه السابق للفترة ٢٠٠٣ - ٢٠١٠ وسيحافظ على علاقات البرازيل مع كافة دول العالم، منوها إلى أن البرازيل يجب أن تكون سيدة نفسها وسيدة مصيرها، ويجب أن تعود لتكون صاحبة سيادة. وفي الوقت نفسه أكد على أن البرازيل لن تبقى مستهلكا ومصدرا للمواد الخام بل ستكون وستعود عنصرا فاعلا في السياسة الدولية.
الحضور كان لافتا بشكل كبير، حيث شارك في مراسم التنصيب ممثلين لخمسين دولة، منهم 17 رئيس دولة من بينهم رؤساء ألمانيا والبرتغال وملك اسبانيا، وعدة دول في أميركا اللاتينية منها الأرجنتين، فيما شاركت الولايات المتحدة بوزيرة داخليتها ديب هالاند، ومن الصين شارك وانغ كيشان نائب الرئيس، ومن فرنسا شارك الوزير المفوض للتجارة الخارجية أوليفييه بيشت. ومن الجانب الفلسطيني شارك وزير الخارجية رياض المالكي، وجرى استقباله بحفاوة في اروقة الاحتفال من قبل الرئيس لولا ووزير خارجيته الجديد ماورو فييرا الذي ينتمي لحزب العمال وكان سابقا سفيرا للبرازيل في الولايات المتحدة الامريكية والارجنتين وكان قبل توليه المنصب سفيرا في كرواتيا. مراسم تنصيب الرئيس السابق جايير بولسونارو عام 2019 لم يتم دعوة فلسطين اليها بينما شاركت إسرائيل فيها بوفد عالي المستوى.
شهدت الالفية الثالثة بروز هوية فريدة من نوعها للبرازيل في النظام الدولي، تزامنت مع صعود حزب العمال للسلطة بقيادة الرئيس لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، بسبب مساحتها وحجمها كبلد قاري مثل الولايات المتحدة الامريكية وروسيا والصين والهند، فهي خامس اكبر بلد في العالم من حيث المساحة وعدد السكان، اذ تبلغ مساحتها 8،547،000 كيلو متر مربع، اقل بقليل من نصف مساحة قارة امريكا الجنوبية. وعدد سكان يصل الى 200 مليون نسمة، تشكل فيه القوى العاملة حوالي النصف. وتمتلك أكبر اقتصاد في امريكا اللاتينية وثاني اقتصاد في الامريكتين بعد الولايات المتحدة، ووصلت في عهد الرئيس لولا لتصبح سادس اكبر اقتصاد في العالم.
منطقة الشرق الأوسط خصوصا، والمنطقة العربية عموما اعتبرت من مناطق اهتمام السياسة الخارجية البرازيلية في عهده، حيث انفتحت السياسة الخارجية البرازيلية على المنطقة العربية منذ عدة سنوات، تمثل هذا الانفتاح بعلاقات تجارية كبيرة ارتبطت بمصالح سياسية على مستوى عالي تمثل بمجموعة دول أمريكا اللاتينية – الدول العربية، وعقدت تلك المجموعة عدة اجتماعات دورية، وتعززت تلك العلاقات بقيادة دولة البرازيل لحملة اعتراف في دول قارة أمريكا الجنوبية بالدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
والبرازيل، كقوة اقليمية مهمة ومحورية عالميا، وتحديدا في امريكا اللاتينية، لها اهتماماتها في المنطقة، من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن ما يميز هذه الدولة وجود جالية عربية كبيرة تصل الى حوالي 10 مليون من اصول عربية، وتحديدا من لبنان وسوريا وفلسطين، مما زاد من اهتمام البرازيل بالمنطقة، حيث تاثرت بالاحداث التي جرت في المنطقة.
كما وأن البرازيل دولة محورية، لها دور مميز وعلاقات مميزة مع اطراف الصراع في الشرق الاوسط، الفلسطينيين والاسرائيليين، والقضية الفلسطينية تعتبر قضية جوهرية في السياسة الخارجية البرازيلية وفي الاوساط الحزبية، وتحديدا الاحزاب اليسارية. كما وانها تحظى باهتمام الراي العام البرازيلي نظرا لان غالبية سكانها من الكاثوليك وتمثل القدس لهم مركز الديانة المسيحية.
فترة الرئيس لولا السابقة كانت من أكثر الفترات في تاريخ البرازيل التي أولت فيها السياسة الخارجية الاهتمام والتركيز على الوضع الفلسطيني، ويمكن القول أن تلك الفترة كانت الفترة الذهبية في عمق وقوة العلاقة ما بين البرازيل وفلسطين، كما انها شهدت عدة مبادرات برازيلية لحل القضية الفلسطينية حلا عادلا يقوم على حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال واقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 بما فيها القدس تعيش بسلام جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل.
وقد لعب الرئيس لولا دوراً أساسياً ومهماً في صنع السياسة الخارجية البرازيلية نتيجة امتلاكه عدد من الخصائص التي جعلت منه قائدا ناجحا. تلك الخصائص انعكست على سياسته الخارجية وحققت نجاحا في مجالات عديدة، رفعت من مكانة البرازيل عالميا وجعلت منها الاقتصاد السادس عالميا.
امتاز الرئيس لولا بشخصية كاريزمية، اكتسبها خلال سنوات عمله النقابي وقيادته للعمال، جعلت منه قائدا ناجحا ذو تجارب وقدرات قيادية، واستطاع الإحاطة بالتعقيدات السياسية الدولية والمتغيرات الدولية، واستطاع خلال سنوات حكمه الثمانية كسب التأييد الداخلي لتنفيذ قرارات السياسة الخارجية و أن يعرف إلى أي مدى يستطيع المضي في تنفيذ الأهداف مع الاحتفاظ بتأييد الرأي العام .
السياسة الخارجية البرازيلية تجاه القضية الفلسطينية في عهد الرئيس لولا انتهجت سياسة ثابتة تقوم على مبدأين هما:
المبدأ الأول: مبادىء الجمهورية البرازيلية التي يؤكدها دستور عام 1988 والقائمة على نشر الديموقراطية، رفض الظلم والاحتلال بكافة أشكالة وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال، وارتباط ذلك بعدالة القضية الفلسطينية.
المبدأ الثاني: إدراك الرئيس لولا للحجم الفعلي لقوة البرازيل، دون الوقوع في خطأ التهويل أو خطيئة التقليل من شأن هذه القوة. انطلقت إدارة الرئيس لولا في فهم أن البرازيل قوة دولية متوسطة، تسعي لتعظيم دورها الدولي والمشاركة بفاعلية أكبر في الساحة الدولية، من أجل إحداث تغيير في بنية النظام الدولي.
الا أن القضية الفلسطينية تراجعت في أجندة السياسة الخارجية البرازيلية في عهد الرئيس اليميني الشعبوي جايير بولسونارو، الذي اعتبر صديقا مخلصا لدولة إسرائيل، وحاول نقل السفارة البرازيلية إلى القدس، وفي عهده امتنعت وصوتت البرازيل ضد كثير من القرارات التي اصدرتها الجمعية العامة للامم المتحدة لصالح فلسطين كان آخرها الامتناع عن التصويت على قرار طلب الرأي الاستشاري من محكمة العدل الدولية في مسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية قبل يومين من تسلم الرئيس لولا رئاسة البرازيل.
في اعتقادي ان الرئيس لولا سيتبع نفس النهج الذي اتبعه عندما فاز برئاسة البرازيل عام 2003، وسيركز على الشأن الداخلي البرازيلي المتمثل بتحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين الوضع الاقتصادي خلال الاربع سنوات القادمة، بحيث سيعمل على استعادة البرازيل لمكانتها الاقتصادية كقوة سادسة عالميا التي وصلتها عند نهاية فترته الثانية اواخر العام 2010، وسيدفع باتجاه تعدد الاقطاب على الساحة الدولية ومن الممكن هذه المرة، في ظل المتغيرات الدولية الحالية، ان ترضخ الولايات المتحدة لمطالب اصلاح مؤسسات الامم المتحدة التي تطالب منها دول كثيرة، في مقدمتها البرازيل والهند ومصر وجنوب افريقيا، بحيث يتم اصلاح مؤسسات الامم المتحدة وتوسيع الاعضاء الدائمين في مجلس الامن تكون البرازيل احد اعضاءه.
على المستوى الفلسطيني، سينخرط الرئيس لولا اكثر في قضايا الشرق الاوسط، والقضية الفلسطينية تحديدا دون تحفظات، وتوقعاتي ان تحدث قطيعة بين البرازيل وإسرائيل نتيحة ذلك الانخراط الذي سيكون لصالح فلسطين لان الرئيس لولا لن يقف صامتا امام تهورات الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تتعارض مع مباديء حزب العمال والدستور البرازيلي وقناعات الرئيس لولا نفسه، وهو لن يخشى عواقب تلك القطيعة، إذ أنها بدأت نهاية عام 2010 عندما اعترف بدولة فلسطين. ويعتقد اليسار البرازيلي بأن القطيعة حدثت ونتج عنها اشتراك إسرائيل وأنصارها من اليمين البرازيلي في تنحية حزب العمال عن السلطة، وذلك من خلال ما جرى من تنحية الرئيسة ديلما روسيف خليفة لولا عن الرئاسة عام 2016 وتلفيق تهم للرئيس لولا بالفساد حالت دون ترشحه في انتخابات عام 2018 وأدت إلى سجنه والحكم عليه لتقوم المحكمة العليا بتبرأته بعد انتهاء الانتخابات وخسارة مرشح حزب العمال فرناندو حداد لتلك الانتخابات.
وعلى المستوى الفلسطيني ايضا، على القيادة الفلسطينية الاستعانة بالقيادة البرازيلية الجديدة واليسار البرازيلي، وفي مقدمته حزب العمال أكبر الاحزاب في أمريكا اللاتينية وأكثرها تأثيرا، في مواجهة التوغل الإسرائيلي في قارة أمريكا اللاتينية، والذي تصاعد في السنوات الاخيرة، وتمثل بنية عدة دول نقل سفاراتها إلى القدس، واصطفاف عدد آخر حول إسرائيل في المنظمة الدولية يالتصويت ضد القرارات المؤيدة للقضية الفلسطينية مثل غواتيمالا أو الامتناع عن الصويت الذي يصب في صالح دولة إسرائيل مثل هندوراس والاوروغواي وجمهورية الدومينيكان.