الكاتب:
أمير مخول
تمهيد
تولى الجنرال هرتسي هليفي منصب قيادة الاركان الاسرائيلية خلفا لأفيف كوخافي، وهو رئيس الاركان الذي عيّنه وزير الامن السابق بيني غانتس بخلاف رأي نتنياهو، ويعتبر هليفي مكملا لجوهر نهج سابقيه في هذا الموقع الرفيع ولمواقف المؤسسة العسكرية في القضايا الاستراتيجية. من الاهمية التنويه الى أنّ رئيس الاركان في اسرائيل هو ليس القائد الأعلى للجيش بل أن هذه المهمة من صلاحيات الحكومة ومن خلال المجلس الأمني المصغّر (الكابينيت) الموخوّل في اقرار قضايا الحرب.
مدخل:
تشهد اسرائيل تآكلا ملموسا في "الشخصية القوية" التي تمتع بها نتنياهو في العقدين الاخيرين، وتحوّله الى رئيس حكومة قابل للابتزاز ومن قبل شركائه في الصهيونية الدينية وفي الاحزاب الحريدية المتدينة.
تقف الحكومة الاسرائيلية امام تحديات داخلية وإقليمية وعالمية تعيق امكانية عودة نتنياهو الى استراتيجياته السابقة والتي عهدناها في العقدين الماضيين، وذلك فيما يخص الملفين الايراني والفلسطيني.
في الشأن الايراني فإن الاستراتيجية الامريكية هي اللاحرب، وكذلك الاستراتيجية العربية وبالذات الخليجية هي اللا-حرب، يضاف اليه غياب استراتيجية اسرائيلية تحظى بإجماع داخلي عليها؛ يرى التيار السائد في المؤسسة الامنية بمن فيهم رئيس الاركان هالجديد هرتسي هليفي بأهمية الاتفاق النووي بخلاف المستوى السياسي المتمثل بحكومة نتنياهو.
في حين أن الملف الاوكراني قد خلط الاوراق في المنطقة والعالم مما ينعكس في تقلص نطاق الاصطفافات التي يريدها نتنياهو اقليميا، كما أنه يعاني من وضع ولاول مرة ودونما قصد يجد فيه نفسه الى جانب روسيا التي تدعمها ايران، او له مصالح مع روسيا وفي تناقض صدامي مع ادارة بايدن كما يوضح ايتان غلبواع احد اهم الخبراء بالشأن الامريكي.
انتقال مركز ثقل الملف الفلسطيني من الى الضفة الغربية في هذه المرحلة، بعد ثبات غير مسبوق للتهدئة بين اسرائيل وحماس، واللجوء الفلسطيني الحثيث الى تفعيل اليات المساءلة الدولية لاسرائيل، هي وضع جديد جعل العديد من استراتيجية حكومات نتنياهو السابقة غير مؤاتية للحالة الراهنة.
إالغاء زيارة نتنياهو الى الامارات والتي سعى اليها لتكون بادرة ظهوره الاقليمي المتجدد، وتعثر أولويته بتطبيع العلاقات مع السعودية، يضاف اليها ردود الفعل على اقتحام وزيره بن غفير لباحات الأقصى المبارك وتخصيص جلسة لمجلس الامن الدولي لبحث مخاطرها، هي مستجدات لم تكن لتحصل في السنوات السابقة.
الاتفاقات الائتلافية فيما يتعلق بالادارة المدنية الاحتلالية باتت قضايا مقلقة للادارة الامريكية وللرأي العام الدولي وذات ابعاد جنائية باعتبارات القانون الدولي.
ينعكس الانقسام الاسرائيلي والشرخ العميق في بداية نهاية الاجماع في قضايا الحرب والسلام والأمن وحول الجيش وحول الجهاز القضائي والفصل بين السلطات، وباتت أزمة الشروخ الداخلية تستلزم حصة كبيرة من انشغالات الحكومة الجديدة وتعوّق رتابة الحكم بالمجمل، أضافة الى علاقاتها الدولية وبالذات مع يهود الولايات المتحدة وادارة بايدن.
لا تبدو رؤية مستقبلية بل للحروب السابقة؟
بالتوافق بين نتنياهو ووزير الامن الموالي له يوآف غالنت تم تعيين الجنرال أيال زمير مديرا عاما لوزارة الامن. كان زمير قد أشغل في السابق وظيفة المستشار العسكري لرئيس الوزراء نتنياهو لخمس سنوات وكان من أقوى المرشحين لرئاسة الاركان العامة بعد ان أشغل مهمة نائب رئيس الاركان، ونافس رئيس الاركان الجديد هرتسي هليفي والذي تولى مهامه هذه الايام خلفا للجنرال كوخابي.
يعتبر زمير ملمّاً جدا بالمخططات الاسرائيلية وبالجيش، ويعتبره المحللون العسكريون أنه ورغم علاقاته الجيدة مع رئيس الاركان هرتسي هليفي، فإن وظيفته في ادارة وزارة الامن وإلمامه الواسع في قضايا الجيش والأمن، سوف يشكل قوة موازية لأثر قائد الاركان نفسه والذي نافسه على الموقع، مما قد يحسم امورا بشأن المخططات العسكرية بما يتلائم واولويات نتنياهو – غالنت، ويعتبر المحللون الاسرائيليون أن زمير سيكون رجل نتنياهو في وزارة الامن اكثر من ولائه لوزير الامن نفسه.
الا ان إسرائل لا ينقصها الجنرالات، وإذ كان زمير المرشح المفضل على نتنياهو لقيادة الاركان، فإن ما يلفت النظر هو تخصصه بالشأن الايراني وإعداده دراسة موسعة ومعمقة في كيفية ادارة المعركة مع ايران من خلال سبع مساقات وأهمها استراتيجية القضاء على وكلائها في المنطقة واحدا بعد الاخر (البروكسي) دون التورط في حرب شاملة. والتي أعدها في العام 2022 لصالح معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى تحت عنوان: "المعركة الاقليمية ضد ايران في السيطرة على المنطقة". هذا اضافة الى دراسة مرجعية أعدها زمير في العام 2008 حين كان بدرجة بريغادير تحت عنوان: مباديء موجّهة في الحرب العادلة ضد الارهاب 2008، واعادت مجلة معرخوت المعنية بالقضايا الامنية والعسكرية، نشرها عشية تسلمه مهامه في وزارة الامن، وهي دراسة تم اعتمادها في الجيش الاسرائيلي ضمن عقيدته الموجهة وضمن أنماط عمله.
من اللافت أن هذا التعيين يأتي في مرحلة تكون فيها اسرائيل مضطربة وبالذات في علاقاتها الخارجية اكثر مما كان قبل تشكيل الحكومة. هناك نوع من الاجماع بتعثر الاستراتيجية الاسرائيلية وعدم تقدمها خطوة واحدة في الملف الايراني منذ اعلان ادارة ترامب الخروج من الائتلاف النووي الايراني، كما أن الظروف الاقليمية تشهد تغييرات واصطفافات واولويات على ضوء المتغيرات الدولية باتجاه تعدد الاقطاب وبالذات بعد الحرب في اوكرانيا، وهذا يندرج على اولويات الدول العربية بما فيها تلك المنضوية في الاتفاقات الابراهيمية مع اسرائيل.
على المستوى الوزاري لقد سبق وتم اقتطاع جزء من منظومات وزارة الامن واخضاعها لوزير الصهيونية الدينية في وزارة الامن وبالذات ما يتعلق بالادارة المدنية في الضفة الغربية ومنسق اعمال الحكومة في المناطق المحتلة. مما من شأنه ان يتطلب اعادة تعريف مهام زمير في الوزارة وعلى حساب الوزير الليكودي غالنت، وهو ايضا جنرال متقاعد وكان مرشح نتنياهو لرئاسة الاركان في السابق.
تدخّل زمير في شؤون الجيش من شأنه أن يؤدي الى التوتر مع قائد الاركان هليفي وذلك بحكم الموقع والصلاحيات، الا أنّ حدوث مثل هذا الأمر سيؤدي بالضرورة الى تصعيد تسييس الجيش والى التسارع في تآكل الاجماع الاسرائيلي حوله، وهو اخر معاقل الإجماع باعتباره "جيش الشعب" وهذا تحوّل كبير فيما لو حصل، خاصة وأن أحزاب الصهيونية الدينية معنية بتغيير طابع الجيش لصالح ايديولوجيتها.
1. الملف الايراني والتوافق بين قراءات زمير ونتنياهو
لدى نتناهو مصلحة وقناعة بأن يتبوّأ الملف الايراني جدول الاعمال الاسرائيلي، لكنه ليس بعجلة من حرب مباشرة وشامله مع ايران ولا بفتح جبهة مع حزب الله في الحدود الشمالية نظرا للثمن الذي ليست اسرائيل بمعنية بدفعه. بينما هو على توافق مع زمير بأولوية الملف الايراني ثم "الحرب على الارهاب".
هناك جانب اقتصادي هام ومحوري فيما يتعلق بالملف الايراني، وهو أن اسرائيل نجحت طوال عقدين كاملين في تلقي اموالا هائلة من الولايات المتحدة لتعزيز قدراتها كما انعكس الامر في الخطتين الخماسيتين الاخيرتين في فترتي اوباما وترامب واللتين وصل مجموعهما 71 مليار دولار، وهذا ما تضغط باتجاهه ايضا الصناعات العسكرية الامريكية والاسرائيلية على السواء.
تتمحور قراءة زمير في بحث طبيعة المعركة الاقليمية الدائرة بين المعسكر الموالي للولايات المتحدة في المنطقة وبين المحور الراديكالي او محور التطرف بقيادة ايران. وحصرياً بالحرس الثوري الايراني باعتباره عماد النظام داخليا ولنشر ايديولوجيته اقليميا ولتشبييك الاطراف وللهيمنة الاقليمية. كما يدعو زمير الى اقامة هيئة اركان اقليمية (عربية اسرائيلية) تقودها الولايات المتحدة وفي محورها اسرائيل. كما تقوم بالحرب الهجينة المعلنة وغير المعلنة والمضللة وتستهدف مجمل الجبهات الداخلية والخارجية الايرانية وكذلك الامنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية لاسقاط النظام واعادة النفوذ الايراني الى داخل حدودها. اي أن الهدف اسقاط النظام من داخله ومن الخارج وهذا ابعد من الملف النووي.
"في السنوات الاخيرة تعزز المحور بقيادة ايران لدرجة تهديد استراتيجي اقليمي، إذ توسع ايران نطاق تأثيرها في الشرق الاوسط وتعزز قوتها بشكل متحرك مقابل دول المنطقة، تمس بالنظام الاقليمي، تخلخل استقرار الانظمة وتهدد بالقضاء على دولة اسرائيل كجزء من حلمها طويل الأمد"، كما تدفع سياساتها سباق التسلح النووي في المنطقة، وهذا ما لا تريده اسرائيل لانه سيفقدها احتكارها لهذا السلاح ويسقط أحد أهم منظومات الردع القائمة لديها.
يشكل المشروعان جزءا من استراتيجية شاملة واحدة، يرفد احدهما الاخر فيها. يوجد في ايران جيشان وفقاً لزمير، واحد الى جانب الاخر فهناك الجيش النظامي بقيادة الاركان العامة بنحو 420 الف جندي، والمعني بالامن التقليدي وحماية حدود الدولة والجهوزية للحرب التقليدية مع اعداء خارجيين. الجيش الاخر هو قوات الحرس الثوري الاسلامي، والذي ينطلق من ان المنطقة تشهد فعليا حالة حرب مستدامة وطويلة الامد، ويشكل هذا الجيش الجيش الاقليمي الذي تحاربه الولايات المتحدة واسرئايل وعدد من الدول العربية، وهو اداة النظام لتحقيق اهدافه الاقليمية
إن إضعاف المحور الراديكالي وإخراجه من دائرة التأثير، يشكل بيئة لتحسين طويل الامد في الواقع الجيوسياسي والامني في المنطقة، مثل هذا الواقع من شأنه ان يتيح للقوى المعتدلة لتعزيز قوتها في المنطقة وان يكون وزنا مضادا للضغط الايراني.
تسديد ضربة لنموذج بنية "المقاومة" من شأنه ان يدفع ايران بعيدا عن مواقع التأثير وان ينعكس على تقليص دور حزب الله والحوثيين وحماس والجهاد الاسلامي، وأن "يعزز قوة وأثر قوى الاعتدال الموالية للغرب امثال السعودية ومصر واسرائيل وتركيا"، ودورها العالمي وتعزز قوة الولايات المتحدة في الساحة الدولية وفي الصراع على الصدارة العالمية بين الدول العظمى حيث يشكل الشرق الاوسط ساحة هامة فيه.
لإضعاف ايران ستكون انعكاسات على مشروعها النووي ويتيح المجال لردعها بشكل فعلي مما سيضطرها الى العزوف عن طموحاتها بعيدة المدى وهناك احتمال كبير بأن هذه الاستراتيجية ستمنع الحرب الشاملة. على النقيض من ذلك يشكل نموذج العمل دون تنسيق مواصلة استنزاف القوى وتوزيعها وعدم القدرة على الوقوف في وجه طموحات ايران ويضرب مصالح اسرائيل.
2. قراءة زمير نتنياهو للملف الفلسطينية:
في هذا المضمار ايضا تبدو هناك فجوة في خطاب نتنياهو وزمير والامر يعود الى التحولات المتسارعة في هذه الساحة، فمن ناحية "الهدوء الاطول على الحدود مع غزة" كما يتباهى قائد الاركان المنتهية مهامه كوخابي، ومن ناحية انتقال المواجهة الى الضفة الغربية وليس بقيادة حماس، بل انها مواجهة اصعب اسرائيليا بسبب الموقع وبسبب تزامن البعدين الميداني من ناحية وكذلك الدولي والدبلوماسي الفلسطيني، وهذا ينافي مشروع نتنياهو في حكوماته السابقة بإعادة الاعتبار الى اهمية العمل في الامم المتحدة وضمان تحول موازين القوى فيها معتمدا على التحولات في افريقيا والنفوذ الاسرائيلي مقابل النخب السياسية الجديدة في هذه القارة.
وتأتي دراسة زمير لتجيب على سؤاله "كيف على الدولة الدمقراطية إدارة الحرب العادلة والناجعة ضد استراتيجيات الارهاب والاستنزاف التي يفرضها عليها شعب آخر؟"، وتؤكد مجلة معرخوت بأن الجيش قد "تبنى الكثير من المباديء" في العقيدة القتالية الاسرائيلية وتبرير استهداف المدنيين في حالات معينة، واهمية استهداف قيادات فصائل المقاومة والتصفيات وتدفيعها ثمن شخصي وتنظيمي اكثر من استفادتها اذ يعتبر أن استراتيجيات منفذي العمليات غير عقلانية بينما مخططات القيادات السياسية التي ترسلهم هي عقلانية ومبنية ايضا على حسابات الأمان الشخصي والربح والخسارة، وعليه ينبغي استهدافهم شخصيا وتصفيتهم. يبرر زمير الجانب الاخلاقي للجيش الاسرائيلي حتى حين يكون ضحايا مدنيين في عملياته، وذلك باعتبار ان عدد الضحايا في حال لم يقم الجيش بسياسة التصفيات سيكون أكبر بكثير ومن الاسرائيليين.
الخلاصة:
• اضطراب الحالة الاسرائيلية الداخلية وتعمق الازمة وضعضعة الاجماع القومي هي أمور تنعكس على النظرة الدولية لحكومة نتنياهو الجديدة وتحاصر دورها. تعزز القناعة بأن الملف الايراني لا يتصدر الراي العام الاسرائيلي وإنما القضايا الداخلية. وبأن خطاب نتنياهو التاريخي القائم على التخويف لم يعد مؤثرا كما في السابق.
• اعادة قضية فلسطين الى جوهر جدول اعمال الحكومة الاسرائيلية حتى ولو من باب النفي، وهذا يدفعها ايضا على جدول الاعمال الدولي بخلاف الاستراتيجية الاسرائيلية. التحدي الحالي مع السلطة الفلسطينية وم.ت.ف بقيادة فتح هو أن هؤلاء يريدون انهاء الصراع لا ادارته كما يريد نتنياهو وكما ينظّر زمير. كما يلغي اولوية استراتيجية "المعركة بين الحروب" كما جرى في جولات العدوان على غزة اذ لا يمكن تطبيقها على الضفة الغربية. ويتم تبني حرب استنزاف يومية في هذا الجزء من فلسطين لا يوجد اي مؤشر بأنها تحقق أهدافها.
• تواجه اسرائيل أزمة عدم القدرة على الحل في الملفين المذكورين لا الحل العسكري ولا الحل السلمي. مما يعزز المسعى للتفتيش عن تعميق الدور الاقليمي لاسرائيل وتوسيع نطاقه، وهذا يتطلب وفقا لنتنياهو وزمير الإبقاء على حالى التوتر المضبوط مع ايران بحبث يبقى معركة مفتوحة لكن دون الولوج نحو حرب شاملة.
• يبدو ان التعيين المذكور هو لاحتياجات نتنياهو في ادارة دفة الامور الداخلية في اسرائيل وقد يساعده في التحكم بجدول الاعمال الاسرائيلي الداخلي، إلا أنه دليل على ضعفه وليس على قوّته.
(نشرت في موقع مركز التقدم العربي للسياسات)