الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الحزب والجبهة: له ما له ولها ما لها

نشر بتاريخ: 23/01/2023 ( آخر تحديث: 23/01/2023 الساعة: 09:55 )

الكاتب: د.سعيد زيداني

بعد ما لا يقل عن ٤٥ سنة على ولادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (الجبهة) من رحم وصلب الحزب الشيوعي الإسرائيلي (الحزب)، وبعد خوض جولات انتخابية متتالية، للكنيست واللسلطات المحلية، باسم الجبهة منذ ولادتها، فإن السؤال التالي "يدق جدران الخزان" (كما يقال): لماذا لا يتم الاندماج أو الانصهار الكامل بينهما؟ ولماذا يستمر الفصل بين هيئات وقيادات كل منهما؟ وكيف يتم تبرير، أوالدفاع عن هذا الفصل بعد علاقة حميمة وأكثر لما يقارب نصف قرن؟ وهل تعرف الكوادر الشابة حقًا تلك الحدود الفاصلة بينهما، ناهيك عن الأنصار والناخبين؟ أطرح هذه الخلية النحلية من الأسئلة الآن حول علاقة الاتصال والانفصال بينهما، وتحديدًا حول استمرار وصاية الحزب على الجبهة، وذلك دون أي تقييم للأداء. فمسالة تقييم الأداء عبر السنين مستقلة عن الأسئلة التي أثيرت هنا حول طبيعة العلاقة بينهما، أو هكذا أعتقد.

وليكن واضحًا منذ البداية: ما أعتقده وأنادي بمسحوق الهمس به، ليس إعادة ترتيب العلاقة بين الحزب والجبهة أو التعريف بها، وإنما الدمج الكامل بينهما، وانصهار الواحد منهما بالأخر. هذا يفترض، من بين أمور أخرى، أن الازدواجيه التنظيمية الحالية لم تعد مقنعة أو مبررة، وربما لم تكن مقنعة أو مبررة منذ سنين كثيرة. أضف إلى ذلك، فإن انصهار الحزب في الجبهة لا يفقد قياداته وكوادره الرئيسة مكانتهم الخاصة أو مواقعهم المتقدمة. ومن جهة أخرى، لا أرى أية قيمة مضافة لاستمرار الازدواجية بين حزب منفصل تنظيميًا عن جبهة يقول أنه عصبها وعمودها الفقري. باختصار، ربما قد حان الأوان لإحالة أحدهما على التقاعد!

والأولى أن يحال الحزب (غير المنتخب) على التقاعد بعد إتمام عملية اندماجه وانصهاره في الجبهة (المنتخبة) التي ولدها في أعقاب أحداث يوم الأرض عام ١٩٧٦، وخاضت الانتخابات المحلية والبرلمانية المتتالية بدلًا عنه منذ عام ١٩٧٧. فالجبهة إطار سياسي أوسع يقوم على قاعدة أيديولوجية رقيقة ولينة، وذلك خلافًا للحزب الذي قام من قبل على أيديولوجية سميكة وصلبة، أصابها ما أصابها من التصدع بعد انهيارالإتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت، كالحزب، تدور في فلكه. وإذا أحيل الحزب على التقاعد، فعلى الأرجح أن تتعزز نزعة الجبهة للتحالف مع شركاء آخرين، وربما تتسع رقعة جذبها أيضًا لقوى وشخصيات سياسية أخرى كانت نافرة في السابق بسبب الصلابة الأيديولوجية للحزب، أو لأسباب أخرى. فهناك، مثلًا، من كان نافرًا بسبب هشاشة التزام الحزب سابقًا بأسس ومعايير الديمقراطية الحديثة، أو بسبب عدم التناسب المفرط في الماضي غير البعيد بين أعداد ناخبي الحزب من المواطنين اليهود وتمثيلهم في الأطر القيادية العليا، يشمل المكتب السياسي وعضوية الكنيست. وهناك، أضافة، من كان نافرًا بسبب دلالة كلمة "الإسرائيلي" التي تذيل إسم الحزب.

أدرك جيدًا أن الإبقاء على الازدواجية التنظيمية الحالية أو إحداث الدمج الذي أهمس به بين الحزب والجبهة هو قرار يتخذه قادة الحزب وكوادره الرئيسة والفاعلة حصريًا. فهم أصحاب الشأن وأصحاب القول، وهم الأوصياء على الإرث. وليس إسداء المشورة لهم أو التدخل في شؤونهم هو ما يدفعني إلى طرح الأفكار أعلاه. ما يدفعني إلى ذلك هي اعتبارات من نوع آخر مختلف، في مقدمتها وعلى رأسها تيسير بناء تحالف وطني، حاوي وواسع، يكون الحاضنة السياسية الوطنية الجامعة لفلسطينيي الداخل، ويكون جاذبًا في ذات الوقت لليهود الإسرائيليين الرافضين الصهيونىة فكرًا ومشروعًا. غني عن القول في هذا الصدد بأن مثل هذا التحالف لا تتيسر ولادته إذا ظل الحزب هو الآمر والناهي للجبهة. أمًا التحالف المقصود والمنشود بناؤه، والذي يضم الجبهة والشركاء الآخرين، فيقوم على برنامج عمل سياسي، يقوم بدوره على محاور نضال تقترن بأهداف محددة، لا يتعذرالإجماع عليها، على رأسها التالية:

أولآ: النضال من أجل حقوق المواطنة الديمقراطية المتساوية والكاملة في الدولة، بما يتطلبه ذلك من تقويض أسس الفوقية اليهودية وتجلياتها.

ثانيا: النضال من أجل حماية وصيانة الهوية الفلسطينية المميزة للإنسان والمكان في الدولة، بما يتطلبه ذلك من حكم ذاتي ثقافي وأكثر.

ثالثًا: النضال من أجل تعزيز الالتزام بدولة الرفاه، وبالتوزيع وإعادة التوزيع المنصف للثروة والموارد والفرص.

رابعًا: النضال من أجل معالجة القضايا العالقة والمستجدة لفلسطينيي الداخل، خاصةً الملحة والحارقة منها.

خامسًا: النضال من أجل حل منصف للصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأوسع يقوم على مبدأ الحقوق الوطنية المتساوية بين الإسرائيليين اليهود والفلسطينيين العرب جميعًا.

هذا مع التأكيد بأن ترتيب النقاط أعلاه لا يعكس الأولوية، سواء الزمنية أو المنطقية.

مثاليًا، تحالف وطني حاوي وواسع كالذي وصفت (والجبهة، بالطبع، مركب رئيس أو ركن أساس فيه) يمكنه استقطاب واستيعاب مختلف الحركات والقوى السياسية، العلمانية والوطنية، الفاعلة في أوساط فلسطينيي الداخل، خاصة إذا كانت ديمقراطية وفلسطينية الهوية والهوى. كما يمكنه قيادة نضالات ميدانية أكثر فعالية، وتوليد قوائم انتخابية أكثر جذبًا لأصوات الناخبين سواء للكنيست أو للسلطات المحلية. أمًا من يبقى خارج مثل هذا التحالف الحاوي والواسع، أو يتم استثناؤهم منه، فهم أساسًا الجهويون واللاديمقراطيون من طرف، والمتذيلون للأحزاب الصهيونىة من الطرف الآخر.

وللإجمال أقول: الأحزاب السياسية ليست أهدافًا بذاتها؛ هي وسائل وأدوات لتنظيم وتعبئة المجتمع وقيادة النضال لتحقيق أهداف محددة. وهي، بالتالي، ليست عصية على الإصلاح أو التغيير أو التلاشي. فقد علمتنا التجربة أن هناك أحزابًا تولد وأخرى تموت، وأن هناك أحزابًا تغير تسمياتها وأهدافها وطرائق عملها، وأن هناك أحزابًا تندمج في أحزاب أخرى، وهكذا. يحدث هذا التغيير أو ذاك لأن الواقع المعيش في حالة جريان وتغير لا يتوقفان. وكما تتغير أحوال الأحزاب، تتغير كذلك الردود الواجبة على التحديات، المتغيرة بدورها. فلا تجزع إذا قيل لك، همسًا أو بصوت عالٍ، لقد حان الأوان لهذا الحزب أو ذاك أن يترجل.

وأخيرًا، بما أن التحديات التي تواجه فلسطينيي الداخل هائلة، ويزداد هولها مع الزمن ومع تعاقب الحكومات في إسرائيل، وآخرها حكومة يمينية متطرفة وعلى عتبات الفاشية، تلح الحاجة الآن إلى الردود المتناسبة. والردود المتناسبة تتطلب بدورها تحالفات وطنية، حاوية وواسعة، وطرائق عمل ونضال مختلفة. وإذا تطلب صنع مثل هذه التحالفات إحالة هذا الحزب أو ذاك على التقاعد، فليكن. هذا مع التأكيد بأن الإحالة على التقاعد، للحزب كما للفرد، لا تقلل شيئًا من أهمية الخدمة التي قدمها أو أهمية الدور الذي قام به عبر السنين.