الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

موجة يسارية جديدة في أميركا اللاتينية... أية آفاق في القارة، وخارجها؟

نشر بتاريخ: 31/01/2023 ( آخر تحديث: 31/01/2023 الساعة: 10:55 )

الكاتب: داود تلحمي

في اليوم الأول من العام الجديد 2023، تولّى لويس إيناسيو دا سيلفا، المعروف شعبياً باسم "لولا"، رئاسة البرازيل، أكبر بلدان أميركا اللاتينية مساحةً وسكاناً وأكبر إقتصاداتها، والإقتصاد العاشر في العالم كله، وذلك بعد أن تفوّق في الدورة الثانية للإنتخابات الرئاسية، التي جرت في أواخر تشرين الأول/أكتوبر من العام المنصرم، على الرئيس جايير بولسونارو، المنتهية ولايته والذي كان يسعى لولايةٍ ثانية. وهذه هي المرة الثالثة التي يتولّى فيها "لولا" الرئاسة بعد أن جرى انتخابُه للمرة الأولى في أواخر العام 2002، وأُعيد انتخابه في أواخر العام 2006 لولايةٍ ثانية إنتهت في أواخر العام 2010، حين انتُخبت مرشحة حزبه ديلما روسيف لتخلفه في رئاسة البلد، لكون دستور البلد ينصّ على عدم قابلية إعادة الإنتخاب لمرةٍ ثالثة على التوالي. وأنهى "لولا" ولايتيه هاتين وهو يحتفظ بشعبيةٍ مثيرة، حيث أعطته استطلاعات الرأي في نهاية ولايته الثانية أكثر من 80 بالمئة من التأييد في بلده الشاسع، الخامس في العالم من حيث المساحة، والسابع من حيث عدد السكان (215 مليوناً).

وفي الكلمة التي ألقاها في حفل التنصيب الذي أُقيم في اليوم الأول من العام الحالي 2023، قال "لولا": "من غير المقبول أن يكون دخل الـ5 بالمئة من الناس الأغنى في هذا البلد يساوي دخل الـ95 بالمئة الآخرين... أن تساوي ثروة ستةٍ من أصحاب المليارات البرازيليين ما يملكه المئة مليون شخصٍ الأفقر في البلد".

وبتوليه الرئاسة من جديد، ينضمّ "لولا"، العامل والنقابي السابق ومؤسّس "حزب الشغيلة" اليساري في الثمانينيات الماضية، الى سلسلةٍ من الحكّام اليساريين الذين جرى انتخابهم في القارة اللاتينية منذ أواسط العام 2018:

# ففي تموز/يوليو 2018، انتُخب اليساري أندريس مانويل لوبيس أوبرادور، المشار إليه عادةً بالأحرف الأول لاسمه في اللغة الإسبانية "أملو" AMLO، رئيساً للمكسيك. والمكسيك هو البلد الثاني من حيث عدد السكان في القارة اللاتينية (زهاء 130 مليون نسمة) والإقتصاد الثاني فيها كذلك، بعد البرازيل؛

# وفي تشرين الأول/أكتوبر 2019، انتُخب ألبرتو فيرناندِس، من تحالف اليسار البيروني "جبهة الجميع"، رئيساً للأرجنتين، البلد الرابع من حيث عدد السكان في أميركا اللاتينية والإقتصاد الثالث فيها؛

# وفي تشرين الأول/أكتوبر 2020، انتُخب لويس آرسيه Arce، مرشح "الحركة من أجل الإشتراكية"، رئيساً لبوليفيا، بعد أقلّ من عامٍ على الإطاحة بمؤسّس هذه الحركة اليسارية، الرئيس السابق إيفو موراليس، الذي كان قد انتُخب رئيساً للمرة الأولى في كانون الأول/ديسمبر 2005 وأُعيد انتخابُه أكثر من مرة ليستمرَّ رئيساً حتى أواخر العام 2019؛

# وفي حزيران/يونيو 2021، انتُخب اليساري بيدرو كاستيّو، المنحدر من أحد الشعوب الأصلانية للقارة الأميركية، رئيساً لبيرو، البلد الخامس من حيث عدد السكان في أميركا اللاتينية، والإقتصاد السادس في القارة؛

# وفي كانون الأول/ديسمبر 2021، انتُخب اليساري الشاب (36 عاما) غابرييل بوريتش رئيساً لتشيلي، الإقتصاد الخامس في القارة، في تحوّلٍ كبيرٍ في مسيرة البلد الذي كان قد شهد، في العام 1973، انقلاباً عسكرياً دموياً أطاح برئيسٍ يساريٍ منتخب (سلفادور أييندي)، وفرضَ حكماً عسكرياً قمعيا دام حتى العام 1990. وشهد البلد بعد ذلك تعاقباً على الرئاسة بين شخصياتٍ من اليمين ويسار الوسط؛

# وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2021، انتُخبت اليسارية سيومارا كاسترو رئيسةً لهوندوراس، البلد الواقع في أميركا الوسطى، والصغير نسبيا (حوالي 10 ملايين نسمة)؛

# وفي حزيران/يونيو 2022، شهدت كولومبيا، البلد الثالث من حيث عدد السكان والإقتصاد الرابع في القارة اللاتينية، والحليف التقليدي الرئيسي لواشنطن في القارة حيث أُقيمت فيه سبع قواعد عسكرية للولايات المتحدة، مفاجأةً كبرى في انتخابات الرئاسة مع نجاح المرشّح اليساري غوستافو بيترو، الذي كان في زمنٍ ماضٍ عضواً في المعارضة المسلّحة للأنظمة اليمينية المتعاقبة على البلد.

وإذا أضفنا الى هذه البلدان كلاً من فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا التي يحكمها يساريون، تبدو القارة اللاتينية في مطلع العام 2023 وقد اختارت غالبيتها الساحقة طريق اليسار... حتى وإن كانت بيرو قد شهدت "إنقلاباً برلمانياً" في الشهر الأخير من العام المنصرم أطاح بالرئيس اليساري المنتخب بيدرو كاستيّو، الذي زُجّ به في السجن. وكانت بيرو قد شهدت في السنوات الست السابقة سلسلةً من الإطاحات المشابهة، حيث جرت الإطاحة بأربعة رؤساء آخرين قبله بين العام 2016 والعام 2021، ثلاثةٌ منهم حُوكموا بتهم الفساد والرابع انتحر. ولم يمرّ الإنقلاب الأخير بهدوء، حيث شهدت بيرو منذ الإطاحة بكاستيّو في السابع من كانون الأول/ديسمبر 2022، سلسلةً من التظاهرات والحراكات الشعبية الواسعة المحتجّة على الإنقلاب البرلماني والرافضة للفريق الحاكم الجديد. وهي حراكاتٌ كانت متواصلة عند كتابة هذه الأسطر، مع ان القمع الشديد الذي مارسته السلطة الجديدة قاد الى مقتل أكثر من 40 مواطناً، وأصابة المئات. وفي حين أبدت واشنطن تأييدها للسلطة الجديدة، أعلنت 14 دولة في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي إدانتها للإنقلاب ودعمها لكاستيّو كرئيسٍ شرعيٍ منتخب.

من جانبها، شهدت البرازيل، يوم الأحد 8 كانون الثاني/يناير 2023، أي بعد أسبوعٍ على تولّي "لولا" لمهمّاته كرئيس، إجتياحاً قام به بضعة آلافٍ من أنصار الرئيس اليميني المنتهية ولايته بولسونارو لمقر البرلمان (مجلسي النواب والشيوخ) والقصر الرئاسي ومقر المحكمة العليا في قلب العاصمة برازيليا. وأحدثت الجموع التي تدفقت على هذه المقرّات الرسمية خراباً وتدميراً واسعين فيها قبل أن تتمكّن الشرطة الفيدرالية من إخراجهم منها، وإلقاء القبض على المئات منهم. وقامت سلطة "لولا" بعد ذلك بإزالة خيم الإعتصام التي أقامها أنصار بولسونارو، منذ انتهاء الجولة الثانية للإنتخابات الرئاسية، في العاصمة وغيرها من المدن قرب معسكرات الجيش البرازيلي، والتي سعوا عبرها لحثّ القوات المسلحة على التدخّل للإطاحة بالقيادة اليسارية المنتخبة، بحجة وجود تزوير في الإنتخابات حال دون التجديد للرئيس السابق. وهو سيناريو ذكّر بما جرى في واشنطن قبل عامين ويومين بالضبط، أي يوم 6 كانون الثاني/يناير 2021، عندما اجتاح أنصار دونالد ترامب مقرّ الكونغرس الأميركي، وتسبّبوا بالكثير من الخراب، بالحجة ذاتها تقريباً.

وهكذا، وإذا تركنا بيرو جانباً، الى أن تتّضح الأوضاع فيها، يظهر أن هناك، في مطلع العام 2023، سبعة بلدانٍ من البلدان العشرة الأكثر سكاناً في أميركا اللاتينية، وعشرة بلدان من أصل ثمانية عشر بلداً تعدّ خمسة ملايين نسمة فما فوق في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي تقودها حكوماتٌ يسارية، بما فيها البلدان الأربع الأكثر سكاناً في القارة، وهي البرازيل والمكسيك وكولومبيا والأرجنتين، والإقتصادات الخمسة الأكبر في القارة، التي تتشكّل من هذه الدول الأربع بالإضافة الى تشيلي.

موجةٌ يسارية سابقة، أفتتحها أوغو تشافِس

وكانت أميركا اللاتينية قد شهدت موجاتٍ يساريةً سابقة في الماضي، كان أحدثُها، قبل الموجة الأخيرة، تلك التي بدأت مع انتخاب أوغو تشافِس رئيساً لفنزويلا في كانون الأول/ديسمبر 1998. وشهدت تلك الموجة انتخاب عدّة رؤساء يساريين بين العامين 2002 و2011 في كلٍ من البرازيل وأوروغواي وهوندوراس وبوليفيا والإكوادور ونيكاراغوا وباراغواي وبيرو، على التوالي. لكن هذه الموجة لم تلبث أن شهدت محاولاتٍ لكسرها في عملياتٍ إنقلابية، "برلمانية" في عددٍ من الحالات، مع وجود تدخّلاتٍ خارجية واضحة، وهي عملياتٌ بدأت في هوندوراس في العام 2009، حيث جرت الإطاحة بالرئيس المنتخب مانويل سيلايا، ثم في باراغواي عام 2012 مع الإطاحة بالرئيس المنتخب فرناندو لوغو، تلتهما محاولةٌ فاشلة للإطاحة بالنظام اليساري في فنزويلا في العام 2013، وهو العام الذي شهد الوفاة المبكّرة والمثيرة للتساؤلات لرئيس البلد وأبرز رموز هذه الموجة اليسارية، أوغو تشافِس. كما شهدت البرازيل ’إنقلاباً برلمانياً’ في العام 2016 أطاح بالرئيسة اليسارية ديلما روسيف، المنتخبة مرتين عامي 2010 و2014، والمنتمية لنفس حزب الرئيس "لولا".

وكانت الأعوام 2016-2018 قد شهدت نجاح مرشّحين يمينيين في انتخابات الأرجنتين وبيرو وتشيلي. لكن النتائج الكارثية على أوضاع المواطنين لسياسات هذه الأنظمة التي التزمت بالنهج الإقتصادي النيوليبرالي، أفسحت المجال أمام مرشحي اليسار للعودة الى واجهة الأحداث في هذه البلدان الثلاثة.

وكاد "لولا" أن يعود الى الحكم في انتخابات الرئاسة البرازيلية في أواخر العام 2018، كما كانت تؤشّر كل استطلاعات الرأي، لولا إلصاق تهم فسادٍ به وزجّه بالسجن، حيث أمضى 580 يوماً. وهو ما أتاح المجال لانتخاب العسكري السابق واليميني المتطرف جايير بولسونارو في ذلك العام، قبل أن تتراجع السلطات القضائية في البلد عن الإتهامات الموجّهة للرئيس "لولا" وتطلق سراحه، ويُفسَح له المجال للترشّح في انتخابات خريف العام 2022، والفوز فيها.

يبقى أن نشير الى كون الحكام اليساريين الجدد ليسوا من مدرسةٍ واحدة، فالبعض منهم كانوا من أصولٍ يسارية راديكالية مثل رئيس تشيلي الجديد، وأحدهم كان حتى عضواً في حركةٍ مسلّحة مناهضة للحكم، وهو رئيس كولومبيا الجديد. ولكنهم يتميّزون جميعاً برغبةٍ في تلبية تطلّعات جمهورهم لوقف التدهور المريع للوضع المعيشي لغالبية السكان، ومعالجة تبعات تطبيقات السياسات النيوليبرالية السائدة منذ الثمانينيات الماضية، ومواجهة نسب الفقر العالية والتفاوتات الرهيبة في المداخيل ومستويات المعيشة بين كبار الأثرياء والغالبية الساحقة من السكّان، كما والتصدّي للتهميش والإذلال اللذين تعرّضت لهما الشعوب المحلية الأصلانية وقطاعاتٌ واسعة من الفئات الشعبية في الأرياف والمدن.

ومن الواضح من الآن أن كافة هؤلاء الزعماء اليساريين ليسوا من الصنف الأيديولوجي المتزمّت الذي عرفته بعض بلدان العالم في القرن الماضي (كامبوديا في النصف الثاني من السبعينيات، على سبيل المثال). فهم يتعاملون مع المعطيات الملموسة في بلدانهم بروحٍ عملية تسعى لتحقيق نتائج، مع تفاوتٍ، بالطبع، في احتمالات النجاح بين بلد وآخر، ومع استبعاد الحديث في كل الحالات عن إمكانية تجاوز النظام الرأسمالي وتحقيق "تحوّلٍ إشتراكي" في أي أمدٍ منظور، وحتى إشعارٍ آخر. ذلك ان التحديات كبيرةٌ أمام هذه الموجة اليسارية الثانية خلال ربع القرن الأخير، خاصةً مع الأزمات الكبرى التي شهدها الإقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة نتيجة جائحة ’كورونا’ وأزمات الوقود ومصادر الطاقة، خاصةً بعد التدخّل العسكري الروسي في أوكرانيا، وما نجم عن مجمل هذه التطورات من تنامي نسب الفقر في العديد من بلدان العالم، ومن إنعكاساتٍ على حركة إستيراد المواد الأولية أو المصنّعة التي تنتجها بلدان "العالم الثالث"، ومنها القارة اللاتينية، وبالطبع من أسعار المواد التي تستوردها.

المنطقة الوحيدة في العالم التي تشهد مداً يسارياً

ومن الملفت أن تكون القارة الأميركية اللاتينية هي المنطقة الجغرافية الواسعة الوحيدة في عالم مطلع عشرينيات القرن الحادي والعشرين التي تشهد مثل هذه النجاحات اليسارية. فيما تعيش مناطقُ عديدةٌ أخرى في أنحاء العالم إنتصاراتٍ لليمين القومي الشوفيني، المتطرف في عدة حالات، كما حصل في بعض بلدان أوروبا الغربية، ومن بينها السويد وإيطاليا مؤخراً، وقبل ذلك بلدٌ آسيويٌ كبير مثل الهند. فشبه القارة الهندية يحكمها منذ العام 2014 حزبٌ قوميٌ هندوسي يميني (بهاراتيا جاناتا)، بعد أن عاش هذا البلد عدة عقودٍ منذ استقلاله في العام 1947 في ظل حكوماتٍ أقرب الى ما يمكن اعتباره اليسار الوطني أو يسار الوسط، فيما كانت بعض ولاياته الرئيسية، مثل البنغال الغربي (99 مليون نسمة)، تنتخب حكوماتٍ إقليميةً تقودها جبهةٌ يسارية (ماركسية) لأكثر من ثلاثة عقود متتالية (من العام 1977 حتى العام 2011).

وهنا لا بد من الإشارة الى ظاهرةٍ ملفتة للإنتباه تشهدها الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة. فإلى جانب الظاهرة اليمينية "الترامبية" والتحوّل المتواصل للحزب الجمهوري نحو اليمين خلال العقود الأخيرة، هناك ظاهرةٌ مقابلة يشكّلها تنامي حضور الأفكار اليسارية لدى الأجيال الجديدة في الولايات المتحدة، خلال السنوات الأخيرة. ويجري ذلك بعد أن غاب "البعبع" الذي شكّله الإتحاد السوفييتي، والحركة الشيوعية التي ارتبطت به، وهو "بعبعٌ" جرى استخدامه بقوة، خاصةً منذ اندلاع ’الحرب الباردة’ غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، من قبل الطبقات الحاكمة في البلد لتنفير (وترهيب) الجمهور الواسع من الفكر اليساري والمواقف اليسارية على الصعيد الإجتماعي، والتي كان لها حضورٌ ملحوظٌ في البلد في فتراتٍ أسبق. وكان لعضو مجلس الشيوخ اليساري بيرني ساندرز Bernie Sanders، الذي خاض معركة التنافس على ترشيح الحزب الديمقراطي في الإنتخابات الرئاسية للعامين 2016 و2020 وطرح أفكاره التقدمية بقوة، تأثيرٌ ملموسٌ على قطاعاتٍ من الأجيال الجديدة في الولايات المتحدة. كما كان هناك تأثيرٌ لعددٍ من المثقّفين اليساريين البارزين في البلد في العقود الأخيرة. ولا أدلّ على تنامي الحضور اليساري في البلد من نجاح عددٍ متزايدٍ من نواب الحزب الديمقراطي الذين يحسبون أنفسهم على التيار التقدمي في الحزب في الإنتخابات التشريعية الأخيرة في البلد.

وقد شهدت بعض البلدان الأوروبية أيضاً (البرتغال، إسبانيا، فرنسا، مثلاً) حضوراً ملموساً للتيارات اليسارية فيها، بعضه في السلطة والبعض الآخر في المعارضة، ولكن هذا الحضور لا يقارن بالوضع الذي كان قائماً في القارة في العقود القليلة التي تلت الحرب العالمية الثانية وسبقت إنهيار الإتحاد السوفييتي.

ولا شكّ أن انهيار التجربة السوفييتية قبل أكثر من ثلاثين عاماً ما زال يجرجر تأثيراتِه على عالم اليوم، حيث يستدعي الحديث عن الخيار اليساري والتوجه الإشتراكي في العديد من مناطق العالم ذكرياتٍ مُرّةً عن تعرّجات ومآلات التجربة السوفييتية... وهي التجربة الهائلة التي كان ملايين البشر قد علّقوا عليها آمالاً كبيرةً، في عقودها الأولى على الأقلّ، لبناء عالمٍ أفضل وأكثر عدالةً... وهي التجربة التي تأثّرت بها بقوة تجاربُ تحرريةٌ يساريةٌ عديدة، خاصةً في أنحاء العالم الفقير والمستعمَر سابقاً، المعروف باسم "العالم الثالث"، ومن بينها تجربتا الصين وفييتنام المهمّتان في آسيا.

ومن الملفت طبعاً أن تكون بلدان أوروبا الشرقية التي كانت مرتبطةً، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بالتجربة السوفييتية بشكلٍ أو بآخر، سواء منها تلك البلدان التي كانت متحالفةً بشكلٍ وثيق مع الإتحاد السوفييتي - خاصةً في إطار ما كان يعرف باسم ’حلف وارسو’- أو تلك التي كانت على خلافٍ أو تباينٍ مع القيادة السوفييتية (ألبانيا، رومانيا، يوغسلافيا)، شهدت، بعد الإنهيار السوفييتي، غلبةً واسعة للخيارات اليمينية في برامج وسياسات حكوماتها المنتخبة وتراجعاً ملموساً لدور القوى اليسارية، وحتى أحياناً لقوى يسار الوسط التي نشأت فيها بعد الإنهيار السوفييتي. ناهيك عن كون يوغسلافيا الإتحادية قد تفتّتت الى سبعة بلدان.

ومع ان بعض المدارس اليسارية، في أوروبا الغربية مثلاً، لم تكن تميل، منذ وقتٍ مبكر، لتقبُّل النموذج السوفييتي السياسي- الإقتصادي كنموذجٍ يُقتدى به في بلدانها (الحزب الشيوعي الإيطالي على سبيل المثال لا الحصر، والذي كان أنتونيو غرامشي أحد أبرز مؤسّسيه ومفكّريه)، إلا انها كلّها عانت من انهيار التجربة السوفييتية، حيث تولّد انطباعٌ واسعٌ لدى جمهورها التقليدي بكون هذا الإنهيار مؤشّراً على انسداد آفاق الخيار الإشتراكي، وحتى لدى البعض فشل الفكر الذي يسنده. وهو ما أبهج منظّري أبدية النظام الرأسمالي و"نهاية التاريخ"، وبالطبع، الطبقات والشرائح الإجتماعية المتحكّمة بهذا النظام والمستفيدة منه. هذا، مع ان أزمة 2008-2009 الإقتصادية العالمية جعلت حتى بعض كُتّاب وسائل الإعلام الغربية المحافظة تستعيد تحليلات كارل ماركس وتذكّر بأهمية وراهنية تشخيصه الشهير لـ"رأس المال".

ولكن مع تجاوز هذه الأزمة، عادت الحملات الدعاوية لأنصار النظام الرأسمالي الى بثّ مناخات التأييس من أية خياراتٍ يسارية. ولم يكن مُستغرباً في ظلّ مناخاتٍ كهذه أن تتحوّل قطاعاتٌ واسعةٌ من القواعد الجماهيرية المُفترضة لليسار – بما في ذلك الطبقة العاملة، والشغيلة عموماً- الى صفوف دعاة وديماغوجيي اليمين الشوفيني المتطرف، كما يُظهر ذلك ما حدث مؤخّراً في كلٍ من السويد، التي حكمها حزبٌ إشتراكي ديمقراطي لعقودٍ طويلة خلال القرن العشرين، وإيطاليا، التي كان الحزب الشيوعي فيها لفترةٍ طويلة أهم الأحزاب اليسارية الجماهيرية وأكبرها في العالم الرأسمالي. وقد شهد العالم، بالفعل، تنامياً لهذه التيارات اليمينية المتطرفة، تعزّز منذ الثمانينيات الماضية مع بدايات ترنّح التجربة السوفييتية ومع الأزمات التي عاد النظام الرأسمالي ليشهدها منذ السبعينيات، ثم تطبيقات السياسات النيوليبرالية، التي سعت لمعالجة هذه الأزمات، ولكن ليس لمصلحة القطاعات الشعبية الواسعة، حيث تراكمت الثروات في أيدي أعدادٍ قليلة من الأثرياء، وفاقمت من نسب الفقر والتفاوتات في المداخيل ومستويات المعيشة. ومع أن أميركا اللاتينية شهدت إنتفاضاً مبكّراً، منذ أواخر التسعينيات، ضد الطوفان النيوليبرالي، مع الموجة اليسارية الأولى التي افتتحها أوغو تشافِس، إلا ان القارة لم تكن مُحصّنةً تماماً ضد الخيارات اليمينية المتطرفة، كما ظهر مع انتخاب جايير بولسونارو رئيساً لأكبر بلدان القارة في العام 1918، في فترةٍ كان فيها دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، ليشكّل، الى حدٍ ما، مصدر تشجيعٍ ودعمٍ لهذا التيار اليميني الديماغوجي.

وحتى في منطقتنا العربية، التي شهدت محاولةً واحدة للإقتراب من التجربة السوفييتية (اليمن الجنوبي- جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية- بين العامين 1967 و1990)، وازدهاراً نسبياً للأحزاب الشيوعية، واليسارية عامة، في بعض البلدان العربية، نرى تراجعاً واضحاً للحضور اليساري في المنطقة منذ التسعينيات الماضية لأسبابٍ عديدة، منها بالتأكيد مآلات التجربة السوفييتية، ولكن ليس حصراً.

وواضحٌ أن البديل اليساري في أميركا اللاتينية لأحزاب اليمين والتبعية وتطبيقات النيوليبرالية ليس متواجداً بنفس الزخم في معظم مناطق العالم الأخرى، بما فيها منطقتنا العربية، التي تظهر فيها الأحزاب ذات الهوية الدينية في عدة حالات باعتبارها هذا البديل الأكثر وضوحاً وحضوراً أمام أعين الجمهور العربي المستاء والمتضرّر من أنظمة التبعية والإستبداد والفساد. وهو ما تبدّى بشكلٍ واضحٍ في الأشهر والسنوات القليلة التي تلت الثورتان الشعبيّتان التونسية والمصرية في مطلع العُشرية الثانية من القرن الحالي، قبل أن تتمكّن قوى الثورة المضادة، المحلية والإقليمية والعالمية، من إجهاض هذه الحراكات الشعبية ومشروع التحرر والتطور الذي حملته، وإغراق المنطقة العربية في سلسلةٍ من الثورات المضادة والحروب الداخلية المدمّرة، لتعيد الأمور عملياً الى نقطة البدء، وحتى، في عدة حالاتٍ، الى ما هو أسوأ.

ومن المفيد والضروري طبعاً التدقيق في أسباب استمرار أزمة اليسار العالمية هذه، والخصوصية التي تجعل القارة الأميركية اللاتينية المنطقة شبه الوحيدة في العالم التي ما زالت ترى في الخيار اليساري بديلاً مُقْنعاً وواعداً. هذا دون الإستخفاف بحجم التحديات التي ستواجهها التجارب اليسارية المتجدّدة في أميركا اللاتينية في ظل الأزمات الإقتصادية التي يشهدها العالم ككل خلال الأعوام الأخيرة، بما فيها بلدان القارة اللاتينية نفسها. ولا شيء يضمن، بالطبع، أن تتمكّن كل الأنظمة اليسارية المنتخبة حديثاً في هذه القارة من تحقيق الآمال الكبيرة التي عقدتها جماهير الناخبين الواسعة عليها، ليس لتجاوز النظام الرأسمالي وتحقيق التحوّل الإشتراكي، وهو ما لا تطرحه القيادات اليسارية المنتخبة، وإنما لإنقاذ شعوب هذه البلدان من المزيد من التدهور في أوضاعها الحياتية وتفافم التفاوتات المريعة في الدخل واستمرار أشكال الإستغلال الخارجي التي أفقرت القارة وامتصّت ثرواتها طوال عقودٍ طويلة، ناهيك عن تخريب البيئة الطبيعية (غابة الأمازون، على سبيل المثال لا الحصر).

خاصةً وأن بعض القادة اليساريين المنتخبين في هذه البلدان لا يتمتّعون بأغلبيةٍ حقيقيةٍ في الهيئات التشريعية، وهو ما سمح بـ’الإنقلاب البرلماني’ في بيرو، كما دفع "لولا" في البرازيل، على سبيل المثال لا الحصر، الى إقامة تحالفٍ واسعٍ جداً، يمتدّ من أقصى اليسار الى يمين الوسط، لتأمين النجاح في الإنتخابات الرئاسية أولاً، وهو ما سيدفعه بعد ذلك الى مساوماتٍ واسعةٍ لتوطيد حكمه وتحقيق بعض ما وعد به خلال حملته الإنتخابية. خاصةً وان تفوّقه المحدود في الدورة الإنتخابية الثانية على خصمه اليميني المتطرف (أقلّ من 2 بالمئة من الأصوات) يؤشّر الى انقسامٍ واسعٍ في البلد، يحتاج الى جهدٍ كبيرٍ من قبله للحدّ من انعكاساته السلبية والإحتمالات الخطرة لاستمراره.

ومن المؤكّد ان تطوّر هذه التجارب وما ستؤول إليه تستقطب اهتمام كل اليساريين في العالم، وفي عالمنا العربي الذي تواجه العديد من بلدانه أزماتٍ مُركّبة وحتى أخطاراً وجودية، لاستخلاص بعض الدروس حول الآفاق المحتملة لتجاربَ شبيهةٍ في المستقبل في مناطق أخرى من العالم، بغرض وقف التدهور المعيشي لقطاعاتٍ واسعة من الجمهور في غالبية هذه البلدان. خاصةً وأن سياسات التبعية والإرتهان لتعليمات المؤسسات الدولية الرأسمالية التي تنتهجها بعض الحكومات العربية، والعديد من دول العالم الثالثً، ناهيك عن الفساد الهائل المستشري في أوساط الشرائح الحاكمة والمتنفّذة، لا تَعِد بالكثير من الخير للقطاعات الشعبية.

أما ما ستؤول إليه الموجة اليسارية الجديدة في أميركا اللاتينية فهو ما ستُظهره الأشهر والسنوات القليلة القادمة. وفي كل الأحوال، فإن التطلّع لإقامة عالمٍ أكثر إنصافاً وعدالةً، عالمٍ يحترم حقّ كل مواطنٍ، بغضّ النظر عن عرقه وقوميته وعقيدته وجنسه وقدراته الذاتية، في العيش بكرامةٍ وحرية، هذا التطلّع سيبقى حياً... الى أن يصبح واقعاً، مهما طال الزمن، ومهما تعرّجت الطرق، ونُصبت الأشراك والعوائق، ومهما استبدّ المستبدون، وسعى مصّاصو الدماء لإدامة نهبهم لأتعاب البشر وجهودهم وتضحيات الأجيال المتعاقبة.