الكاتب: د.سعيد زيداني
١. للديمقراطية الحديثة (وتسمى "الديمقراطية الليبرالية") مركبان أو جناحان: الواحد ديمقراطي والثاني ليبرالي، ولا تستقيم أو تحلق إلا إذا توازن المركبان أو الجناحان. المركب الديمقراطي يعنى أساسًا بحكم الأغلبية التي تتمخض عنها انتخابات عامة ونزيهة، أمًا المركب الليبرالي فيعنى أساسًا بحماية الأفراد والأقليات من خطر طغيان الأغلبية الحاكمة، وقد تجنح الأغلبية الحاكمة أحيانًا نحو الطغيان. وهناك، تبعًا لذلك، توتر ملازم بين التزامات كلا المركبين. فإذا كان المركب الديمقراطي ينزع إلى تقليص رقعة الحريات والحقوق لصالح القرارات الديمقراطية، فإن المركب الليبرالي ينزع، في المقابل، إلى توسيع تلك الرقعة، وإن تطلب ذلك تقليص رقعة القرارات الديمقراطية. والمحكمة العليا في ألدولة الديمقراطية الحديثة في قلب مثل هذا التوتر بين المركبين، والذي يصل إلى حد الصراع أحيانًا. والتوتر/الصراع بين المركبين يطال بدوره مكانة وصلاحيات تلك المحكمة ذاتها. فالديمقراطيون يريدونها هيئة لتنفيذ القوانين ليس أكثر، بينما يريدها الليبراليون تدخلية أكثر ولتفتي بشأن صلاحية أو فساد القوانين والإجراءات الحكومية أيضًا. والأحزاب اليمينية، المحافظة دينيًا أو/وقوميًا، تسعى عادة إلى تقليص رقعة المركب الليبرالي. كل ذلك ينطبق على حالة الديمقراطية في دولة إسرائيل، على علاتها الكثيرة، تمامًا كما ينطبق على حالات دول ديمقراطية أخرى في العالم الأوسع.
٢. لقد تمخضت الانتخابات البرلمانية في الفاتح من نوفمبر الماضي عن فوز واضح لليمين الخالص، إذ حصلت أربعة أحزاب/قوائم يمينية على ٦٤ مقعدًا في البرلمان/الكنيست، فشكلت بائتلافها الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نتنياهو، تلك الحكومة التي حصلت على ثقة البرلمان قبيل نهاية العام ٢٠٢٢. وهي، كما يجمع الخبراء والفقهاء، أكثر حكومة يمينية في تاريخ الدولة العبرية. فهي مركبة من أربعة أحزاب كلها يمينية ومحافظة، يمكن إجمال منطلقاتها الاجتماعية والسياسية كالتالي: حزب واحد محافظ قومي (الليكود) وثلاثة أحزاب دينية محافظة، واحد منها (الصهيونىة الدينية) ذو نزعة قومية متطرفة. أما الحزبان الآخران ("شاس" و"يهدوت هتوراة") فدينيان حريديان، يأخذ الهاجس الديني لدى كل منهما أولوية على الهاجس السياسي/القومي. غني عن القول في هذا الصدد بأن هذه الأحزاب الأربعة (ولنعتبر قائمة الصهيونىة الدينية حزبًا وأحدًا لغرض النقاش هنا) ملتزمة بنص وروح قانون القومية لعام ٢٠١٨، والذي يشرعن الفوقية اليهودية والسيادة الحصرية لليهود في ألدولة. وباختصار، نحن بصدد حكومة جديدة تشدها الأحزاب الدينية المحافظة نحو الثيوقراطية، بينما تشدها الأحزاب القومية المحافظة نحو الفاشية. وهذا يفسر النفور الواضح منها والعداء الواضح لها من قبل العلمانيين/الليبراليين اليهود من جهة، ومن قبل فلسطينيي الداخل والفلسطينيين عمومًا من جهةٍ ثانية.
٣. عداء العلمانيين/الليبراليين اليهود للحكومة اليمينية الجديدة مرده ثلاثة عوامل رئيسة هي التالية:
الأول: بسبب ما ترمي إليه الأحزاب الدينية فيها من تعطيل المواصلات العامة يوم السبت، وزيادة المخصصات للمدارس الدينية/الحريدية وإعفاء طلابها من الخدمة العسكرية أو المدنية، واحتكار الاعتراف بيهودية الأشخاص أو نفيها، وتضييق الخناق على ذوي التوجهات الجنسية المختلفة، وهكذا.
الثاني: بسبب ما ترمي إليه الأحزاب القومية فيها من تكثيف الاستيطان وشرعنة البؤر الاستيطانية وشق المزيد من الطرق الالتفافية، الأمر الذي يعزز مكانة المستوطنين و"دولة المستوطنين"، بما يعنيه ذلك من تعميق واقع سياسي وقانوني يصعب إنكار وصمه بتهمة الفصل العنصري، وهو ما يخشاه الليبراليون اليهود، عدا اليمينيين منهم.
الثالث: بسبب ما ترمي إليه الأحزاب الأربعة مجتمعة من الاستيلاء على مؤسسات الدولة العميقة (أساسًا السلطة القضائية، وعلى رأسها المحكمة العليا، وسلطة الإعلام) وإنهاك ما هو عصي منها على الاستيلاء (أساسًا مؤسسات المجتمع المدني، خاصة الحقوقية منها).
ولغرض تحقيق ما ترمي إليه الأحزاب اليمينية المحافظة الأربعة، منفردة أو مجتمعة، كما لغرض خلاص نتنياهو من الويلات المتوقعة لنتائج مقاضاته بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة، تلح الحاجة إلى تقليم أظافر المحكمة العليا، وإلى الحد الذي يتم تعطيل دورها في مجال البت بشأن صلاحية أو فساد القوانين التي تشرعها الكنيست بالأغلبية المطلقة.
٤. فلسطينيو الداخل في قلب المواجهة:
الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الحالية، والتي تصعد على عتبات باب الفاشية، لا تبشر بأي خير لفلسطينيي الداخل. هي حكومة الفوقيه اليهودية والسيادة اليهودية الحصرية بامتياز. فماذا يتوقع منها فلسطينيو الداخل، والذين يعانون من نقص في حقوق المواطنة الديمقراطية أصلًا، غير المزيد من تقييد الحريات، وتضييق الخناق على التنظيم والعمل السياسي ذي البعد الوطني، وتصعيد الهجمة على الأراضي الفلسطينية في النقب، وعلى هوية الأحياء الفلسطينية في مدينة القدس العربية والمدن الساحلية؟ ساذج كل فلسطينيي يتوسم أي خير من حكومة تقول جهرًا بأنها ترهن المواطنة بالولاء، ويقض مضجعها رفع العلم الفلسطيني في المناسبات والأماكن العامة.
واذا كان الأمر كذلك، فإن الرد الواجب والمتناسب من قبل فلسطينيي الداخل على تحدي مثل هذه الحكومة اليمينية المتطرفة يتمثل بالتالي: إقامة تحالف وطني، حاوي وواسع، يحتض الأحزاب والحركات السياسية والقوى والشخصيات الوطنية الفاعلة في أوساط فلسطينيي الداخل، تحالف يكون أيضًا مظلة حاضنة لليهود الإسرائيليين الرافضين الصهيونىة فكرًا ومشروعًا. مثل هذا التحالف يمكنه قيادة النضال الجدي والمتواصل ومتشعب المسارات من أجل التصدي لأي إجراءات أو قرارات حكومية تستهدف مواطنتهم، حرياتهم وحقوقهم، أراضيهم ومساكنهم، وهويتهم الثقافية والوطنية. أمًا الرد الوطني الفلسطيني، الأعم والأشمل، ضد تكثيف الاستيطان والممارسات القمعية والمآرب الأخرى لحكومة اليمين الخالص، فيتطلب تجاوز واقع التشظي والانقسام الفلسطيني الداخلي، تجديد وشرعنة القيادة الوطنية الجامعة، والنضال الرادع.