الكاتب: احمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
يهيمن على الساحة الفكرية والسياسية والأمنية منذ وقت ليس بقصير مناقشة مستقبل وجود الدولة، ويبدو واضحاً أن هذا الجدل قد وصل لذروته بعد فوز اليمين القومي الديني المتطرف في الإنتخابات الأخيرة التي جرت في نوفمبر من الماضي 2022 وتشكيل الحكومة الحالية، التي شرعت فور تشكيلها في تنفيذ جملة من الإجراءات على الصعيدين القضائي والتشريعي لغايات حسم الصراع مع الفلسطينيين، وحسم هوية الدولة.
ويبدو هنا أن السجال والنقاش حول مستقبل وجود الدولة قد خرج من دائرة التحذيرات الفردية قي الأوساط الأكاديمية والسياسية والإعلامية والأمنية والعسكرية والإقتصادية، الى دوائر أوسع من المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يتجلى في المظاهرات الإحتجاجية الضخمة الأسبوعية في كل من تل ابيب والقدس وحيفا، وفي إنضمام قطاعات واسعة من المجتمع (مؤرخين وروائيين وقانونيين وأطباء وممرضين وعمال) للمتظاهرين في تعبيرهم عن قلقهم على وجود الدولة والأمة نتيجة لهذه الإجراءات، والأهم في تعبيرهم عن رغبتهم في الهجرة من البلاد.
وفي السياق ذاته شرعت شركات (الهاي تيك) التي تعتبر من أهم القطاعات المساهمة في الناتج القومي للدولة في توقفها عن العمل لساعات محددة يوميا كشكل من أشكال الإحتجاج على الإجراءات التي شرعت فيها الحكومة، وقد أعلن قطاع الممرضين يوم السبت الموافق 4/2/2023 أنهم سيبدأون في الإحتجاج من خلال التوقف عن العمل في كل المستشقيات إبتداء من الأسبوع الجاري، والأهم في هذا الشأن دعوة الجنرال المتقاعد من سلاح الجو (زئيف راتز) عبر وسائل التواصل الإجتماعي يوم السبت الموافق 4/2/2023 الى قتل رئيس الوزراء الذي ينقلب على ديمقراطية الدولة.
ربما يجادل البعض من المراقبين خاصة المراقبين الفلسطينيين، أن موجة الإحتجاجات الآخذة في الإتساع أفقيا وعموديا لا علاقة لها بالصراع مع الفلسطينيين، وهي تجري في إطار الصراع على هوية الدولة فقط.
وعلى الرغم من مشروعية ووجاهة رأي هذا البعض، إلا أن هذه المقالة تؤمن أن مسار حسم الصراع مع الفلسطينيين، ومسار حسم هوية الدولة، هما مساران متلازمان غير منفصلان عن بعضهما البعض، الأمر الذي يعني أن الصراع مع الفلسطينيين وتداعيات حسمه وفق رؤية اليمين الحاكم الآن، من الأسباب الدافعة للقلق على مستقبل الوجود، إذ يدرك العقلاء من اليهود داخل إسرائيل وخارجها أن هذا النوع من اليمين الذي يحكم إسرائيل الآن يؤمن بأن فلسطين خاصة الضفة الغربية هي أرض يهودية توراتية لا يجوز التنازل أو الإنفصال عنها.
ويرفض هذا اليمين تسمية الضفة الغربية بالضفة الغربية، ويصر على تسميتها بيهودا والسامرة، كما يرفض إطلاق توصيف وجوده بالضفة الغربية بالإحتلال، الأمر الذي يعني أنه سيستهزأ بأي حكم قضائي متوقع أن يصدر عن محكمة العدل الدولية بشأن توصيف الوضع القانوني للوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية بناء على طلب فلسطيني بالحصول على رأي قانوني من المحكمة، كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد صادقت عليه وأحالته للمحكمة العليا في لاهاي بتاريخ 30/12/2022.
في الواقع يرى الكثير من خبراء العلوم السياسية والعلاقات الدولية حول العالم أن المقاربة الوحيدة التي تتبناها إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين سواء من حيث إدارته أم معالجته هي القوة، ويؤكد هؤلاء الخبراء أن فشل إسرائيل في تحقيق الأهداف المرجوّة من مشروعها الإستعماري في فلسطين التي تتلخص في إقامة (دولة يهودية خالصة، ديمقراطية، مزدهرة اقتصادياً، عادلة وآمنة) بعد أكثر من سبعة عقود على إقامتها على أرض فلسطين يجعل من قوتها (الخشنة والناعمة والذكية) قوة عقيمة.
ويضيف هؤلاء الخبراء أن القوة العقيمة عادة ما توصل أصحابها إلى نتائج غير مقصودة وغير متوقعة، وهذا بالضبط ما وصلت اليه إسرائيل الآن، وللتدليل على ذلك، هل توقع قادة المشروع الصهيوني الأوائل أن تنفيذ مشروعهم سيستغرق أكثر من قرن دون النجاح في تحويل إسرائيل لدولة طبيعية في المنطقة؟ وهل توقعوا أن عدد الفلسطينيين بعد أكثر من سبعة عقود على إعلان قيام إسرائيل سيكون على الأرض الممتدة من النهر للبحر أكثر من عدد اليهود؟ وهل توقعوا كذلك أنها أي إسرائيل ستكون في نظر الرأي العام العالمي بما في ذلك الرأي العام اليهودي دولة أبارتهايد وفصل عنصري وأن أكثر من 75% من سكان العالم سينظرون اليها بسلبية؟ والأهم هل توقعوا أنها لن تشكل الدولة الجاذبة ليهود العالم للقدوم اليها والعيش فيها؟ إذ نجحت على مدى قرن من بدء الهجرة اليهودية الى فلسطين في إقناع 45,3% من اليهود حول العالم فقط بالقدوم للعيش فيها، وتظهر الإحصاءات الرسمية أنه حتى نيسان/أبريل من العام الماضي 2022 عبر 33% من هذه النسبة عن رغبتهم في الهجرة من البلاد، الأمر الذي دفع البعض من المختصين في العلاقات الدولية الى اعتبار اسرائيل مصابة بعمى إستراتيجي.
اللافت هنا أن قوى اليمين القومي الديني لا تريد أن ترى هذه الحقائق، بل وتستخف بها ولا تقيم لها أي وزن في سياستها وعلاقاتها الدولية وفي نفس الوقت لا تريد الإعتراف بفشل المشروع الصهيوني برمته، ويتجلى هذا الإنكار أيما تجلي في السلوك الإسرائيلي، لا سيما في الشعارات الإنتخابية لقوى اليمين، وقد تجلى ابتداء في الشعار الإنتخابي لحزب القوة اليهودية بزعامة نفتالي بينيت في إنتخابات الكنيست العام 2015، حيث كان شعاره الإنتخابي (لا داعي للإعتذار).
صحيح أن هذا الحزب لم يتجاوز نسبة الحسم في الإنتخابات الأخيرة، إلا أن الأيدلوجيا المحركة لهذا الشعار لا زالت تضبط المواقف السياسية لباقي قوى اليمين الديني القومي المتطرف، لا سيما حزبي القوة اليهودية والصهيونية الدينية.
وببساطة تقول الأيدلوجيا المحركة لهذا الشعارأن على اليمين الخروج من حالة الدفاع عن النفس والإعتذار عن وطنيته وحبه العميق لأرض إسرائيل وعن تستره على مشروعه الإستيطاني، وعليه أن يعلن عن ايمانه العميق بالقيم اليهودية وبتفوق إسرائيل العسكري، والأهم أن عليه التحلل من الضوابط الأخلاقية والليبرالية التي تضع قيود على لغة القوة.
وفيما يجسد الشعار الإنتخابي لحزب القوة اليهودية بزعامة بن غفير (من صاحب البيت؟) الأيدلوجية, يعكس كذلك فشل المشروع الصهيوني في تحقيق أهدافه في فلسطين الناظمة لشعار البيت اليهودي، إلا أنه يعكس في نفس الوقت شك المواطنين (اليهود) في إسرائيل أنهم أصحاب البيت، الأمر الذي لا يخلو من دلالة، لا سيما بعد مرور أكثر من سبعة عقود على إعلان قيام الدولة خاضت خلالهما أكثر من 14 حرب طاحنة في المنطقة وواجهت إنتفاضتين شعبيتين فلسطينيتين كبيرتين، وتعيش في حالة من الإشتباك العسكري مع اصحاب البلاد الأصلانيين وشعوب ودول الجوار بشكل يومي.
ولكي يجيب اليمين الحاكم الآن على السؤال الشعار (من هو صاحب البيت؟) فلا خيار أمامه إلا إكمال التحول الديموغرافي في فلسطين الذي لم يكن قد إكتمل العام 1948، لا سيما وأن الدولة برمتها مصابة بعمى إستراتيجي، تمنعها من قرائة معاني ودلالات أجابة الشعب الفلسطيني على هذا التهديد التي جسدها بوضوح أيما وضوح (محمد) ابن الثلاثة عشر ربيعا من القدس الشرقية ورفاقه من نفس الجيل في حارته، وبهذا أنضم الى المحامي زياد ابو زياد الذي قال قبل شهر من الآن وحملت عنوان "لا انكر خوفي من نكبة آتية، فهل هناك من يبدد هذا الخوف؟.