الكاتب: د. جهاد عبد الكريم ملكة
نتنياهو "الساحر الفاسد"، كما يصفه كبار معارضيه، والذي يُحاكم منذ أعوام بتهم "فساد وخيانة الأمانة"، يريد الان "فقط لا غير" النجاة من الحكم عليه بالسجن عبر حيلة من حيل "الساحرة" الشهير بها، وهي حيلة "الإصلاحات" في الجهاز القضائي وهدفها الرئيس والوحيد هو تقويض الجهاز القضائي والمحكمة العليا والالتفاف على قراراتها والحد من صلاحيات السلطة القضائية، مقابل تعزيز مكانة وصلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية، ويتم ذلك عبر تغيير قانون الحصانة البرلمانية لأعضاء الكنيست والوزراء ورئيس الوزراء، بحيث لا يواجهون التحقيق أو المحاكمة خلال توليهم منصبهم، أي تشريع "القانون الفرنسي" الذي سيحصن نتنياهو وينقذه من المحاكمة.
هذه الحيلة لم تنطلي على شريحة واسعة من السياسيين والاقتصاديين والحقوقيين وحتى الكُتاب والادباء والشعراء في إسرائيل، جميعهم اعتبروها بأنها "انقلاب سياسي" يمهد إلى تغير جوهر نظام الحكم في إسرائيل.
هذه الخطة المسماة "إصلاحات قضائية" والتي هي في حقيقتها "تخريب للقضاء"، لم تعد تداعياتها مقتصرة على الجانب السياسي والاجتماعي فقط، بل تعدى ذلك ليصل ولأول مرة في تاريخ إسرائيل إلى الاقتصاد ومحوره الأهم وهو صناعة التكنولوجيا (التقنيات العالية) او ما يعرف بـ"الهايتك" ، والتي تساهم في نحو أكثر من 25% من ضريبة الدخل وتشّغل أكثر من 10% من قوة العمل الإسرائيلية والاهم أنها تساهم بحوالي نصف الصادرات، الأمر الذي أدى إلى إثارة تخوفات من المستثمرين الذين يبحثون عن بيئة استثمارية آمنة، وهو ما يعني سحب الاستثمارات من دولة الاحتلال الأمر الذي يضر بالعملة الإسرائيلية "الشيقل" بشكل كبير وهو ما بدئنا نلمسه في اليوميين الماضيين في ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الشيكل. ويأتي تخوف المستثمرين في صناعة التقنية العالية من التغييرات القضائية او كما يسميها نتنياهو "إصلاحات" من أن عدم الاستقرار القضائي معناه هروب الاستثمارات إلى الخارج لأن الاستقرار القضائي بالنسبة إلى المستثمرين الأجانب في هذه الصناعة هو شرط أساسي لاستمرار استثماراتهم، ولحماية أصولها الرئيسية وحقوق الملكية الفكرية، وأن انعدام الثقة بالقضاء سيخيف المستثمرين الأجانب وسيمنعهم من الاستمرار في مشاريعهم المزدهرة والناجحة جدا في إسرائيل، الأمر الذي سيوقف نمو هذه الصناعة، بل واكثر من ذلك إلى تداعيات انهيار اقتصادي خطير يصيب دولة الاحتلال وذلك كنتيجة لتشابك هذا القطاع الهام والحيوي مع قطاعات أخرى كالصناعة والتجارة والبنوك والاهم من ذلك التصنيف الائتماني لدولة الاحتلال الذي سيؤدي حتما إلى أن تقوم الشركات الدولية ومتعددة الجنسيات والصناديق الاستثمارية العالمية إلى سحب أرصدتها من دولة الاحتلال وتحويل حساباتها للخارج، بالضبط كما أعلنت كلاً من شركة "فيربيت"، ثانية كبريات شركات التأمين في تل أبيب، وشركة "بيبيا غلوبال"، إحدى شركات التقنية الرائدة، مغادرتهما السوق الإسرائيلي احتجاجاً على "الإصلاحات القضائية" التي ينوي بنيامين نتنياهو تطبيقها.
الثمن الاقتصادي الباهظ بفعل الاستقطاب الداخلي الذي تفجر في أعقاب حركة الاحتجاج الواسعة على سياسات نتنياهو لن يكون هو الوحيد، بل هناك ثمن اجتماعي سيدفعه المجتمع الإسرائيلي عبر حراك اجتماعي يحصل الان ويؤدي إلى تغييرات جوهرية في المجتمع الإسرائيلي، وهو تآكل قوة الطبقة الاشكنازية الليبرالية "اليهود من أصول أوروبية" والتي تعتبر عماد دولة الاحتلال لأنها تتحكم في مفاصل الدولة "العميقة" كالجيش والامن والمناصب العليا في الدولة لكونها الأكثر استفادة من الاقتصاد الراس مالي كطبقة اجتماعية اقتصادية تعتبر الأقوى بين الطبقات الأخرى في المجتمع الإسرائيلي والتي كانت حليفة نتنياهو ومن قبله من "الليكوديين" في السنوات الماضية ولكن مع تصاعد قوة اليمين الديني داخل حكومات نتنياهو المتعاقبة ومحاولة هذا اليمين الصهيوني الديني ان يفرض نفسه كقوة سياسية مهمة ويفرض نفسه على الأنماط الاجتماعية داخل دولة الاحتلال ولصالح طبقات اجتماعية أخرى كطبقة الحريديم "المتدينيين" والتي هي بما بمثابة عبئ كبير على دولة الاحتلال كونهم لا يخدمون في الجيش ولا يساهمون في الاقتصاد بشيء نظراً لانهم فقط ينشغلون فقط في الزواج وتعلم التوراة وهم الان أصبحوا في الائتلاف الحكومي وتصرف لهم ميزانيات ضخمة والاهم انهم الان تجاوزوا حدودهم ودخلوا في قلب عملية صنع القرار السياسي، وباتوا يغيرون قوانين الدولة لتتوائم مع توجهاتهم الدينية والتي هي ضد الليبرالية والديمقراطية الأمر الذي سيؤدي الى تزايد الفجوات بين الطبقات الاجتماعية في دولة الاحتلال والتي هي بالأصل غير منسجمة لولا أن قوة الدولة هي التي تحافظ على التوازن في المجتمع، ولكن بالتأكيد في حال ضعفت الدولة اقتصادياً وقضائياً وسياسياً فإنها ستضعف اجتماعيا وتدخل في صراع طبقي ربما يصل حد الحرب الاهلية وهو ما سيعني نهاية هذه الدولة لأنها دولة ليس لها جذور في هذه الأرض التي تغتصبها بقوة السلاح.
اذا نجح نتنياهو في تمرير اصلاحاته القضائية التي يسعى لها ستكون هذه نقطة تحول في تاريخ دولة الاحتلال وبطاقة حاسمة لشركائه في الحكومة ولخصومه في نفس الوقت ولن تكون إسرائيل الديمقراطية الليبرالية كما يعرفها العالم بانها "واحة للديمقراطية" بل ستكون دولة ثيوقراطية «الهالاخاة»، وسيكون مشهد معقد للغاية يحمل الكثير من التطورات الغريبة والعجيبة.
تنويه خاص: موقف بعض الفصائل في التعامل مع اعدام الشباب المقاومين يحتاج الى إعادة تقييم ونقاش وطني لبحث هذه المسألة، ولا يجب عليهم التخلي عن مفهوم "المظلومية" وكأنها عيب أو نقيصة، بل هي جزء من المقاومة الناعمة التي يمكن الاستفادة منها كسلاح قوي في المواجهة المفتوحة مع دولة الاحتلال والتي هي أحد أكبر أسلحة دولة الاحتلال منذ نشأتها.