الكاتب: خالد جميل مسمار
كنّا أربعة ذكور وستّ إناث.
حديثي عن الأربعة..
من هم الأربعة ؟
هم إخوتي وأنا.
تميم ، غسان، خالد ونافذ الذي كنا نناديه محمد.
واضح إذاً أني رقم ٣ في الذكور.
ولكني في العمل غالباً ما كنت الرقم ٢ !!
تميم هو الأخ الأكبر وأول من تخرّج وأصبح موظفاً حكومياً .. تبعه غسان ، وأيضاً أصبح موظفاً حكومياً..
عكس توجهي أنا ونافذ :
ذهبت إلى القاهرة للدراسة وبعد عدة سنوات لحقني أخي نافذ وكانت فترة تعجّ فيها الشعارات الرنانة من مختلف الأحزاب العربية في الأردن وسوريا والعراق وثورة مصر.
شعارات القومية العربية وتحرير فلسطين ثم إنشاء منطمة التحرير الفلسطينية برئاسة احمد الشقيري .
أراد أخي نافذ الذي تعودنا على مناداته بمحمد ، واسم محمد له قصة ليس هنا مجالها، أن يلتحق بجيش المنظمة الذي أعلن عن بدء تشكيله فذهب هو ومجموعة من الشباب لمقابلة الشقيري ، ولكن كان هناك من نصحه بالعودة إلى الأردن والالتحاق هناك بالجيش العربي .. وكان له ذلك.
أما أنا وكنت في بداية دراستي الجامعية في مصر عندما عشنا هزيمة حزيران في العام ١٩٦٧م وكانت كالصاعقة على قلوبنا وعقولنا وكانت أنباء العمل الفدائي قد بدأت تنتشر وذاع صيت حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح وقواتها العاصفة عندها قلت ما حكّ جلدك مثل ظفرك ، فليس أمامنا نحن شباب ذلك العصر إلا الالتحاق بالعمل الفدائي..
تطور العمل الفدائي واتّسع وجاءت معركة الكرامة الخالدة التي انتصر فيها الفدائيون بمساعدة عظيمة من الجيش العربي انتصاراً ساحقاً جعل الكثيرين من الشباب الفلسطيني والعربي يلتحق بصفوف " فتح" وكان منهم أخي نافذ هو والكثيرين في الجيش بقيادة المرحوم سعد صايل " أبو الوليد".
والحكاية تطول وتتفرّع..
إذاً ابتعدت أنا وأخي محمد عن إخوتي تميم وغسان وعن الأسرة ككل يومها قالها لي والدي رحمه الله عندما غادرت عمان بعد أحداث أيلول السبعيني " لقد وهبتك أنت ومحمد إلى الثورة " والدموع تترقرق في عينيه..
تتسارع السّنون وتتوالى الأحداث الجسام ونعود ثانية أنا وأخي محمد إلى حضن العائلة ويلتمّ شمل الأخوة الأربعة من جديد.
يصيب المرض العضال أخي غسان ويفارقنا بعد معاناة كبيرة وكتبت عنه في حينها ، ثم تلحق به شقيقتنا الكبرى خولة وبنفس المرض وكانت بمثابة أمّنا الثانية بعد وفاة والدتنا رحمهما الله.
ثم يصيب المرض هذا أخي محمد ولم يمهله طويلاً وكتبت عنه أيضاً يومها.. وكم كانت خسارتي وألمي بفقدان الأحبة.
بقيت أنا وتميم..
كنا متلازمين باستمرار..
نذهب سوياً إلى المناسبات والأفراح والأتراح
نتذكر أيام الطفولة في نابلس وحياتنا هناك وهمّة الوالد والوالدة في تربيتنا على المحبّة والتعلق بالوطن وحبّ الضيف وإكرامه.
هو أخي الأكبر وأصبح بمثابة الوالد بعد وفاة والدنا رحمه الله ومع ذلك كان يقدّمني على نفسه وكأنني أنا الكبير ، وكذلك كان يفعل أخواي الحبيبان غسان ومحمد..
كم كانت الألفة والمحبة تحفّ بنا مما انعكس ذلك على أبنائنا الذين أحبّوا أعمامهم حبّاً جمّاً.
وتمرّ بنا السنون وتجتاح العالم جائحة الكورونا.. ويفقد أخي تميم زوجته ويحزن عليها حزناً شديداً كاد أن يقضي عليه لولا لطف الله. اجتاز المحنة بسلام وتقبّل أمر الله لكنني أحسست أنه يسارع الخُطا لوداع هذه الدنيا. كان دائماً يطلب مني زيارة أخواتنا باستمرار وزيارة الأقارب في إربد والسلط وكم كان يتمنّى زيارة نابلس التي أحبّها وعشقها تماماً كما كانت نابلس حبيبة أخي نافذ الذي كان دائماً يتغنّى بأزقتها وحاراتها القديمة ، وتعلق قلبه بالعليّة في عصيرة الشمالية المعروفة الآن بعليّة مسمار التي بناها جدّنا المرحوم الحاج سعيد.
لم نستطع أن نوفّر لأخي تميم تصريحاً لزيارة نابلس . كان يحدثني عن بيتنا القديم في أزقة نابلس الذي دمره الزلزال ، كونه أكبر مني ، ويحدثني عن تفاصيل حياة جدي وجدتي وأعمامي وعماتي في أمور كثيرة كنت أجهلها بل كان يستذكر شقاوته أيام مراهقته وشبابه..
يوم الخميس الماضي نزل من شقته في العمارة التي نسكنها ومعه ابنه البكر معتصم إلى بيت العائلة بيت الوالد الذي تسكنه حالياً شقيقتنا نوال..
وجلسنا نتبادل أطراف الحديث عما يجري في الوطن وما يقوم به الاحتلال في نابلس وجنين والخليل ورام الله وما يقوم به في القدس والعيزرية والعيسوية واقتحامات المستوطنين للأقصى المبارك وتهديد الخان الأحمر وجبل المكبر وعربدة المستوطنين في أنحاء الوطن وقتل الشباب والأطفال وقلع أشجار الزيتون وسرقة الأراضي والتوسع الاستيطاني..
واستمر الحديث إلى حين حلول أذان المغرب فاستأذن داعياً ابنه معتصم الحضور غداً الجمعة ، وعادة نجتمع مرة أخرى عقب صلاة الجمعة في نفس البيت.
وجاءت الجمعة .. لكنه لم يأت
ففي فجر يوم الجمعة صعدت روحه إلى بارئها راضية مطمئنة ليلحق بوالدينا وشقيقتنا الكبرى وغسان ومحمد.
عندما رثيت أخواي غسان ومحمد وكتبت ذلك بكى بكاءً شديداً وقال لي يومها أريدك أن ترثيني أيضاً وكأنه يقول لي : أنت الذي سيبقى بعدنا.
نعم يا أخي الحبيب ها أنا بقيت وحيداً وتركتني كما تركني غسان ومحمد ..
ما عدت أستطيع مرافقتك في زيارة أحد فمن سيرافقني بعدكم؟!
كنا أربعة ..
وأصبحت وحيداً !
والأجل يقترب .. فهذه سنة الحياة
فأنتم السابقون ونحن اللاحقون.
ولكنّ أبناءنا سيواصلون طريقنا .. كما واصلنا طريق أجدادنا .
ترك لنا والدنا سيرةً حسنة .. نفخر بها أمام الناس.. تعلمنا منه ونهجنا سيرته ليفخر بنا أبناؤنا أيضاً.
وتستمر الحياة.