الإثنين: 13/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

المقاربة الجنوب أفريقية

نشر بتاريخ: 20/02/2023 ( آخر تحديث: 20/02/2023 الساعة: 18:47 )

الكاتب: حيدر عيد

بعد غياب ما يقارب ال 10 سنوات قمت بزيارة جمهورية جنوب أفريقيا لعدة أسباب, أهمها التعلم من التجربة النضالية الثرية و دراسة الإخفاقات العديدة. اللقاءات مع نشطاء و سياسييين كانت مثمرة للغاية من ناحية فهم المقارنة بين التجربتيين، الفلسطيينية و الجنوب أفريقية، و استيعاب الخلل البنيوي الناتج عن سوء أداء المفاوض الأسود و انزلاقات التحليل العرقي بمعزل عن البعدين الكولونيالي و الطبقي.

ما ينقصنا هو ما ما فعله السود في جنوب أفريقيا في عقدي السبعينيّات والثمانينيّات من القرن المنصرم، أي الانخراط في حوارات عاجلة لمحاولة فهم نظام الأبارثهيد الذي نواجهه. ومثلما جادلت الكتلة الأقوى داخل الحركة المناهضة لنظام الأبرتهايد هناك، بالذات “المؤتمر الوطني الأفريقي”، بأن الفصل العنصري هو نظام هيمنة عنصرية، وأن الكفاح ينبغي أن يتمحور حول القضاء على السياسات العنصرية والمطالبة بالمساواة بموجب القانون، يميل التيار الوطني السائد في فلسطين، يميناً و يساراً، من ناحية إلى التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي لمناطق الـ67 كاحتلال كلاسيكي من دولة لدولة أخرى، ومن ناحية أخرى اعتبار الكفاح في مناطق الـ48 نضالًا من أجل مساواة سياسية. إلا أنه كان هناك أيضًا تيار من الراديكاليين السود الذين رفضوا التحليل المهيمن لحزب المؤتمر الوطني، وركّزوا على تحليل الفصل العنصري كنظام “رأسمالية عنصرية” ما يحتم تطوير البرنامج الكفاحي لمجابهة دولة الاستعمار الاستيطاني الأبيض والنظام الرأسمالي العنصري في نفس الوقت، حيث تنبأوا بأن تظل جنوب أفريقيا بعد القضاء على الفصل العنصري منقسمةً ولا مساواة فيها، ما لم تواجَه العنصرية والرأسمالية معًا.

فلسطينيًا، تتجلى انزلاقات الوعي الوطني الفلسطيني في الفترة الأخيرة في عدم تعامله مع نظام الحكم الإسرائيلي في فلسطين التاريخية وتحديه، واقتصار ذلك على المناطق التي احتلت عام 1967 فقط. في الحالة الجنوب أفريقية كان لا يمكن تصور طرح “حق” نظام الأبرتهايد في الوجود على 78% من أرض جنوب أفريقيا. أصبح من الواضح أن ما نجح به حل الدولتين على مدار العقود الماضية هو منح الوقت الكافي لتحقيق الأهداف الإسرائيلية، وفي نفس الوقت منح سكان الضفة الغربية وقطاع غزة أملًا كاذبًا بالاستقلال، بشكل يشابه إلى حدّ ما دعاية نظام الأبرتهايد بخصوص منحه “شعوب جنوب أفريقيا” السود “أوطانًا مستقلة” (بانتوستانات) على ما يقارب 12% من أرض جنوب أفريقيا. وعليه فإن الخطوة الضرورية الأولى الآن تبدأ بتحويل الخطاب السياسي في فلسطين التاريخية من الاستقلال إلى إنهاء الاستعمار الاستيطاني وتجلياته من احتلال وأبرتهايد وتطهير عرقي ممنهج. و الحقيقة أن جميع النشطاء الجنوب أفارقة في كل الندوات و المقابلات كانوا يطرحون العدييدي من الاستفسارات عن حل الدولة الديمقراطية العلمانية و لملذا تم التنازل عنه من قبل التيارات الوطنية الفلسطيينية.

والحقيقة أنه يتحتم علينا تجاوز ثنائية حل الدولة وحل الدولتين كون “الحل” الثاني لا يشكلّ الحد الأدنى من العدالة المطلوبة، حيث أنه لا يجسّد حق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف في تقرير المصير، إلا في حالة تخلّي اللاجئين الفلسطينيين وسكان فلسطيني الـ48 عن حقوقهم الأساسية والمكفولة في القانون الدولي. وهذا بحد ذاته سيناريو لا يقل سريالية عن سيناريو “حل الدولتين”. وفي حالة تجاوز هذه الثنائية، يبرز سؤال النموذج الجنوب أفريقي وانزلالقاته نحو أبثرتهايد اقتصادي-اجتماعي بعد القضاء على تجلياته السياسية من تفرقة عنصرية فجة.

فلا شك أن القضاء على الفصل العنصري المقنن في 1994 واكتساب السود في جنوب أفريقيا المساواة بموجب القانون، بما في ذلك الحق في التصويت، والحق في السكن في أي مكان، والحق في التنقل دون تصريح، وكان ما مرت به الدولة من انفتاح على الديمقراطية يعد إنجازاً مبهراً لنضالات وتضحيات الشعب الجنوب أفريقي. كما أن العملية الانتقالية هناك برهنت على إمكانية التعايش السلمي على أساس المساواة القانونية والاعتراف المتبادل.

ولكن، من ناحية أخرى، تمّ ذلك على حساب التعامل الجدي مع هياكل الرأسمالية العنصرية، كما شخصها بعض النشطاءالنقديين الأفارقة، بما فيهم ستيف بيكو ونيفيل أليكساندر. فقد قام حزب “المؤتمر الوطني الأفريقي” بتقديم تنازلات كبيرة أثناء المفاوضات مع نظام الأبارثهايد لضمان تأييد النخبة الرأسمالية البيضاء. وهذا بدوره، بالإضافة إلى تبنّي سياسة اقتصادية تقوم على أساس إعادة الهيكلة النيوليبرالية، أدى إلى ظهور نخبة صغيرة من القطط السمان من السود، دون أن يؤثر ذلك على النخبة البيضاء القديمة التي عززت سيطرتها على معظم الأراضي والدخل القومي. و كانت النتيجة الحتمية لكل ذلك سوء إدارة، و فجوة طبقية هائلة ذات طابع عرقي، و انخفاض حاد في الخدمات العامة و خصخصة القطاع العام و ما ينتج عن ذلك من بطالة و تفشي للجريمة...الخ

من هنا، تبرز أهمية وضرورة المقاربات مع التجربة الجنوب أفريقية التي يتبعها بعض النشطاء والمثقفين الفلسطينيين واعتمادها على التعريفات القانونية التي تعتبر الأبارثهايد جريمة ضد الإنسانية، وتحتّم على المجتمع الدولي مقاطعة النظام الذي يمارسه. كما أن التحولات الدولية منذ نهاية القرن المنصرم تسير باتجاه التحولات الديمقراطية التي تتخطى العرقية والعنصرية… إلخ و كانت تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية و الفلسطينية, و حتى الإسرائيلية، قد توصلت لنتيجة أن النظام الكولونيالي المهيمن بين نهر الأردن و البحر المتوسط ينطبق عليه التعريف القانوني للأبارثهيد، مما يحتم على المجتمع الدولي مقاطعته و فرض عقوبات عليه كونه يشكل جريمة ضد الإنسانية.

ولكن، من الضروري، أيضًا، عدم إغفال محدودية التحول في جنوب أفريقيا والتركيز قدر الإمكان، كما فعل بعض النشطاء النقديين من تيار الوعي الأسود وبعض الماركسيين الجنوب أفارقة، على التعامل مع الفصل العنصري الإسرائيلي كنظام رأسمالي عنصري، بالإضافة للتعريف القانوني الليبرالي. فمفهوم الرأسمالية العنصرية يبرز البنية المشتركة بين مراكمة رأس المال والتكوين العرقي- الإثني -الديني في إسرائيل، ويؤكد استحالة القضاء على الهيمنة الصهيونية أو عدم المساواة الطبقية دون معالجة النظام برمته. بمعنى أن النضال من أجل دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني يتطلب بالضرورة التصدي لاقتصاديات الفصل العنصري من أجل تجنّب القيود الحقيقية على عملية تفكيك الاستعمار، وعدم الوقوع في فخ إعادة هيكلة الأبرتهايد. وهذا يتطلب ممن تخطى وهم حل الدولة الوطنية المستقلة على حدود الـ67 العمل على صياغة إستراتيجيّات تتصدى للعنصرية والرأسمالية النيوليبرالية الإسرائيلية. من الواضح، في هذا السياق، أن القوى التي كان من المتوقع أن تتصدى لهذه المهمة، قد مرت بعملية أنجزة نجحت في تحويل الوطنية النقدية لوظيفة براتب شهري، لدرجة تبني الطرح اليميني لمفهوم الوطنية الفلسطينية وحصر ذلك في مفهومي “الاستقلال” و”الدولة الوطنية!”، كل ذلك جاء من خلال ثقافة سياسية جديدة لم توفر لا الحرية (67) ولا المساواة (48)، وإنما إعادة هيكلة علاقات الهيمنة بين المستعمِر الرأسمالي الأشكنازي الأبيض، والمستعمَر الفلسطيني. ويمكن القول باختصار إنّ اتفاقيات التطبيع المتلاحقة، عزّزت المشروعَ الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي من خلال خلق حقائق استيطانية على الأرض وصولًا لصفقة ترامب التصفوية و”خطة الضم” الليكودية اللتين وجّهتا رصاصة الرحمة لحل الدولتين العنصري و تحول اسرائيل إلى الفاشية الدينية ممثلة بالتحالف الحاكم.

كل ذلك يستدعي ضرورة التفكير النقدي في عملية التحرير، وليس الاستقلال، وربط تفكيك الاستعمار الإسرائيلي بعملية التحول من الوعي الوطني إلى الوعي السياسي والاجتماعي، تجنبًا للإشكاليات ما بعد الكولونيالية.