الإثنين: 06/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

رَقمنةُ التعليم المهني والتقني، ودمجُهُ بالتكنولوجيا

نشر بتاريخ: 06/03/2023 ( آخر تحديث: 06/03/2023 الساعة: 10:44 )

الكاتب: أ.صخر سالم المحاريق





لا شكَ بأن التعليم هو عمادُ التنمية الشاملة والمُستدامة، وهو جوهرُ عملية بناءِ الذات، فمن خلالهُ تُكتسبُ جُملة (المعارف، والمهارات) اللازمة لجعلها "ذات" مُنتجة بالقدر الذي تُؤثر فيه وتتأثر بتلك العملية التشاركية أي "التنمية"، وتفاعلاتها المُختلفة، بحيث تبدأ بها، وتنتهي بُمجتمع على قدرٍ عالٍ من التقدم، والتحضر، والحداثة في جميع مناحي الحياة، حيثُ يتحقق حينها الرفاه الاقتصادي والاجتماعي غايةُ تلك التنمية، ومُنطلقهُ هذا العماد.
لقد مرت عمليةُ التعليم والتَعَلُم بمراحلٍ من التطور في مُختلفُ مُكوناتها، شأنها في ذلك شأن العديد من العمليات المُنظمة ذات الهدف؛ فهي تلك البذرة الفطرية والتي وُجدت في النفس البشرية في مسعىً منها لكي تتطور باستمرار، ولكي تستوفي مُختلف احتياجاتها، ومُقومات حياتها، وأهدافها، ويأتي ذلك كُله في بيئة مُتغيرة العوامل باستمرار، وتدرجٍ في حقبٍ تاريخيةٍ ألزمتها بحتمية المُعاصرة والمُواكبة، فكان لتك الحقبِ والعصورِ التاريخيةِ أدواتها المُختلفة في التعليمِ والتَعَلُم، بدءً بالعصر الحجري، فالبرونزي، فالحديدي، فالصناعي، وأخيراً وليس بآخر عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ونتيجة لهذا التفاعل بين عملية التعليم والبيئة، كان هذا المخزون العالمي الهائل من الإنتاج المعرفي، والبحث العلمي "النظري والتطبيقي" المُتصل بجميع مناحي الحياة، والمُرتبط بها كسبيل رئيسي للتنمية فيها.
إن حتمية المُعاصرة والحداثة تلك أمر لا مفرَ مِنْهُ، وخاصة في إطارِ عملية التعليم والتَعَلُم، وذلك عبر التحول من بوتقة التقليد والتلقين، إلى عملية التجديد، والتفاعل، والمُحاكاة باستخدام التقنية "التكنولوجيا" في كافة مُكونات العملية التعليمية (طالب، مُعلم، أدوات ووسائل، أساليب تعليمية، منهاج، ومُناخ تعليمي مُحفز)، وهذا الأمر يجبُ أن يمسَ كافة مراحل عملية التعليم والتَعَلُم الذاتية منها والجماعية، والرسمية وغير الرسمية، والمدرسية والجامعية، والأكاديمية والمهنية.
فأُمية اليوم عزيزي القارئ الكريم ليست هي أُمية الأمس، إن أمية اليوم تتمثلُ في عدم مقدرتك كفردٍ أو جماعةٍ أو فريقٍ أو حتى مُؤسسة على استخدام التكنولوجيا وأدواتها المُختلفة، والتي أصبحت لصيقة حياتنا اليومية، وهي من أهم مُسهلاتها، والوفاء بمتطلباتها، بل هي إحدى مُتطلبات ومهارات القرن 21، والتي جاءت تحت بند (مهارات محو الأمية الرقمية - Digital literacy) محو الأمية المعلوماتية، والأمية الإعلامية، والأمية في تكنولوجيا المعلومات، والاتصالات.
ولأن التعليم المهني والتقني وليد سوق العمل، والوفاءِ بمتطلباتهِ الفنيةِ والشخصية، فلا بدُ من نقلهِ هو الآخر من الإطار التقليدي في التعليم والتَعَلُم لإكساب المعارف النظرية والمهارات التطبيقية، إلى الوفاء بِمتطلبات العصر في تعزيز تلك "الكفايات المهنية" اللازمة اليوم للانخراط المُباشر عبرها في سوق العمل بكفاءة وفعالية، وذلك باستخدام أدوات ووسائل التعليم الحديثة المُدمجة بالتكنولوجيا، فعلى سبيل - المثال لا الحصر- ووفق دراسات علمية واستطلاعات للرأي، فقد تلاشت اليوم "المكتبات الورقية" إلى حساب "المكتبات الالكترونية" في عصر إنترنت الأشياء، ناهيك عن سُهولة الحصول على الكُتب، والدراسات، والمراجع بيُسر مُقارنة بالأولى عبر فضاءٍ مفتوحٍ على العالم في مُختلف صُنوف المعرفة وتوثيقها نصياً، وصُورياً، وعبر الفيديو، وليس هذا فحسب، فالواقع الافتراضي المُعزز بالمحاكاة حديثُ اليوم، هو بمثابة مُستقبل الغد وما بعدهُ كأداة لنقل المعلومة، وتجربتها، والتفاعل معها في آن واحد، ولم تعد تقتصر عملية المُحاكاة تلك على تعلمُ مهنة الطيران فحسب، بل تجاوزتها إلى مهنة الإعلام والصحافة، والتصميم الهندسي بأشكالهُ، إلى بناء المُجسمات الافتراضية بأنواعها، إضافة لعلم النفس وتعديل السلوك، والتدريب العسكري ... وغيرها الكثير.
خُلاصة القول؛ قد يكون هُنالك تفاوت في استخدام وسائل التقنية والتكنولوجيا في المهنِ والحرفِ المُختلفة، وآلية تعلمها عبر ذلك، ولكن "التكنولوجيا" هي اليوم بمثابة نمط تفكير، واستخدام آخر لأدوات الحياة يُلامس مُختلف نشاطاتها، بل إن المعرفة باستخدامها هو مُتطلب هذا العصر، فلا بُد من الإشارة لما يلي في أهمية تحويل عملية التعليم عامة، والتعليم المهني والتقني على وجه الخصوص لتعليمٍ مُدمج بالتكنولوجيا:
أولاً: جعلُ عملية التعليم والتَعَلُم أكثر ذكاءً من خلال دمجها بمتطلبات التقنية والتكنولوجيا، فهذا الأمر سيجعل منها عملية أكثر مُرونة وديناميكية في نشاطاتها المُختلفة، وبالتالي التكيف مع مُتطلبات العصر، ومُجابهة تحدياتهِ الجمة، وليست كورونا "كوفيد -19" بحالة صحية جماعية أصبحت ببعيدة عنا وإذ بها باعدت بيننا، لذا يجبُ علينا أن نستقي منها العديد من الدُروس المُستفادة في هذا الخصوص.
ثانياً: تُعتبرُ التكنولوجيا من مُسهلات العصر، حيثُ أوجدت العديد من "التطبيقات والبرامج" في هيئة وسائل وأدوات مُختلفة لغاية تسهيل حياتنا، وتوفير التكاليف على المدى البعيد من خلال الاستثمار المدروس فيها، ولا شك بأن لعملية التعليم والتَعَلُم العديد من التطبيقات والأدوات التي سهلت استخدامها، وربط مُكوناتها ببعضها البعض بطريقة ذكية، وفي شكل رُزمة واحدة – All in One، كالبرامج التعليمية التفاعلية، الألواح والشاشات الذكية، الأرشفة الإلكترونية للمكتبات بالصوت والصورة، برمجيات الرسم الصناعي، وبناء المُجسمات ذات القوالب الجاهزة، إضافة إلى أساليب التعليم المُصغر من خلال الاستعانة باليوتيوب، والفيديو، واستخدام المُحاكاة لتحسين الأداء العملي للطلبة والمُتلقين .
ثالثاً: يوجد العديد من الاختصاصات اليوم، وخاصة في قطاع التعليم المهني والتقني هي أصلاً من مُفرزات استخدام العملية التكنولوجية وتطبيقاتها المُختلفة، (كاختصاصات الحاسوب، والويب، والأمن السيبراني، والشبكات، والاتصالات، والتصميم عبر الحاسوب، والتسويق الإلكتروني، وتكنولوجيا التعليم، والتكنولوجيا المالية ... وغيرها)، وبالتالي لا يجبُ علينا تدريسها بطريقة تقليدية بعيدة عن أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا من الربط والترابط.
رابعاً: التكنولوجيا اليوم قاربت بين القطاعات المُختلفة، ودمجت فيما بينها في عملية تكاملية مُترابطة كشبكة العنكبوت، فعالم البرمجيات على - سبيل المثال لا الحصر - لا يقتصرُ على علاقته بعالم الإلكترونيات فحسب، بل تجاوزه اليوم ليكون جزءً أصيلاً من عالم الميكانيك الحركي، فسيارة كهربائية اليوم مثلاً تدمجُ بنسب مُتساوية بين الميكانيك، والإلكترونيات، والبرمجيات، والكهرباء في هيئةِ وحدة واحدة مُتكاملة الأجزاء والعناصر.
خامساً: إن "التعليم الذكي" سيُساعد الطالب على كيفية استخدام وسائل التكنولوجيا المُعاصرة، وبالتالي سيُكسبه المزيد من المهارات والقدرة على الابداع والابتكار، كذلك الأمر فان تعليم مهني وتقني ذكي سيقود إلى مشاريع اقتصادية ذكية هي أيضاً، ولا يقتصر الأمر على الطالب كمحور للعملية التعليمية فحسب، بل كذلك المهارات التي يُفترض بالمعلم اكتسابها هو الآخر من خلال استخدامه للتكنولوجيا في التعليم، وتطور أُسلوبه من أُسلوب تقليدي إلى تفاعلي، كذلك دورهُ في بناء منهاج حديث وتفاعلي، وبالتالي تحقيق ميزات تنافسية إضافية.
سادساً: الأثر الأخضر للتكنولوجيا ودورها كأداة فعالة للتنمية المُستدامة، وكسبيل لجعل المُؤسسات خضراء قدر الإمكان وصديقة للبيئة، من خلال اختزال العديد من العمليات والهدر الناتج عنها، فهي تُسهم في تقليص الورقيات من مُراسلات ومطبوعات مختلفة، وبالتالي تقليل النفايات الصلبة، كذلك توفير الطاقة وتقليص استخدامها فيما لو كانت الانارة ذكية مثلاً، ناهيك عن استخدامات أخرى تُعزِزُ من البصمةِ البيئةِ الخضراء للأفراد والمُؤسسات.