الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
ليس من السهل قراءة المشهد الإسرائيلي على الطريقة العربية. فهناك حالة تفاعل داخلي بين الأحزاب الصهيونية من الصعب أحيانا على المواطن العربي ان يدركها. لا سيّما وانه لا يوجد طرفان متناحران داخل إسرائيل، وانما يوجد طرفان متحالفان يسفكان دم العرب، ويتقاتلان على طريقة حكم بعضهما البعض ويتشاجران على درب إقامة نظام ابارتهايد عنصري.
يسار ويمين. علمانيون ومتدينون، اغنياء وفقراء. غربيون "اشكنازيم" وشرقيون "سفرديم". عسكريون ومدنيون. مستوطنون وسكان تل ابيب.. وهكذا. وهؤلاء جميعا لا يرفضون الاحتلال ولا يقاتلون من اجل وقفه. بل انهم جميعا يتسابقون في العداء ضد العرب ويسعون لبناء مجتمع عنصري يقوم على فكرة الابارتهايد وفاشية الفكر القائل بان اليهود (منبوذي الأمم والمطرودين من عواصم الغرب) اصبحوا جنسا مميزا وعرقا صافيا.
والعجيب ان صهيونيا اشقرا من منهاتن او من اوديسة يريد ان يقنعك ان اثيوبيا من قبائل فلاشيمورا هو من نفس جينات دي ان ايه. وان صهيونيا من اصل عراقي مثل بن غفير ويهودية من المغرب مثل ماري رجب تريد اقناعك ان تسفي ليفني البولندية واسحق هيرتسوغ الليتواني الروسي من نفس الجينات !!!
والسؤال الذي يشغل بال المفكرين: هل هذا صراع تناحري بين الصهاينة ام انه مجرد خلاف بين اللصوص وسرعان ما يتفقون على تقسيم كعكة الاحتلال بينهم وسرعان ما يعيدون توزيع الأدوار؟
انا أرى ان الغريزة اقوى من الفكر. وان غريزة العنصرية المتأصلة داخل الحركة الصهيونية سوف تنتصر على أي فكر تنويري اخر. بمعنى ان الحركة الصهيونية منذ تكوينها كانت وسوف تبقى حركة استعمارية بريطانية عنصرية فاسدة ويستحيل إصلاحها وتحويلها الى حركة قومية طبيعية يمكن البناء عليها. ولكن :
ولكن نعم يمكن البناء على فكرة ان هذا الصراع القائم حاليا في إسرائيل سوف يصل قريبا الى صراع تناحري دموي ويؤدي الى تطهير عرقي بين اليهود أنفسهم. وهذا ما حدث في اسبانيا أيام حكم فرانكو بعد الحرب العالمية الثانية وهذا ما سوف يحدث في إسرائيل.
بعيدا عن كل التفاصيل فقد اثبتت الأسابيع الأخيرة في إسرائيل ان الاحتلال لا يمكن ان يواصل الكذب على نفسه بقيام دولة ديمقراطية. فلا هي دولة ولا هي ديمقراطية، وانما هي كيان عنصري يقاتل نفسه ويحفر قبره بيديه.
ان ما يجمع المجتمع العنصري اليهودي الان هو شيء واحد، وباقي العوامل مجرد عوامل مساعدة لا تقوى على توحيد اليهود.
ان ما يجمع اليهود في الحركة الصهيونية هو المال. المال فقط. هكذا كانوا وهكذا سوف يبقون حتى النهاية.
ان الاحتلال مشروع اقتصادي ناجح حتى الان. وحين ينقص المال، سوف تتوحش الغرائز وتخرج الانياب والمخالب.
في عام 1958 انتفض اليهود الشرقيون في حيفا لان الفقر أكل من عظامهم وصار أطفالهم يأكلون من حاويات النفايات. وحاولت الشرطة أن تقمعهم فتصدوا للشرطة.
بعد ذلك قام بن غوريون بحجة الاستيطان في النقب ببناء مدن فقيرة ونقل اليهود الشرقيين من البيوت العربية في حيفا الى صحراء النقب والى ديمونا وبئر السبع.
ولكن المجاعة انتشرت في كل إسرائيل. فما كان من بن غوريون الا ان عقد صفقة تعويض مالي مع المانيا وقبل التعويض عن افران هتلر ومعسكرات التعذيب لليهود في الحرب العالمية الثانية. وحينها كتبت الصحف العبرية وصاح مناحيم بيغن ان بن غوريون باع دم اليهود.
ولغاية تلك اللحظة كانت أمريكا ترفض دعم إسرائيل. فقامت المانيا ببناء مصانع كبيرة وتشغيل اليهود هنا ومنحتهم اموالا لا تأكلها النيران.
بعد ذلك اصبح في إسرائيل اموالا ولكن من دون سكان ومن دون ديموغرافيا كافية. فقام الاتحاد السوفييتي بإرسال ما بين 2 الى 3 مليون روسي للاستيطان في فلسطين. وهجرة ملايين من روسيا هي اكبر خيانة للشعب الفلسطيني وهي السبب في إطالة عمر الصراع خمسين سنة أخرى .
تظاهرات تل ابيب .. قد تبدو حدثا عابرا. لكنها ليست كذلك فقد انكسر قناع الخداع بين الطبقات وبين الجاليات وبين القوميات داخل هذا النظام العنصري. ولا يمكن العودة مرة أخرى والقول ان هذا لم يحدث، وان هذا لم يشاهده أحد .
وفي النهاية هناك اغنياء غربيون اشكنازيم علمانيون يعملون وفق خطة. وهناك في الطرف الآخر سفرديم شرقيون متدينون حريديم معظمهم فقراء وجهلة يعملون بلا خطة، ويركبهم الليكود ويقودهم الى حيث يريد.
في عام 1973 ظهرت حركة اليهود الشرقيين المسماة الفهود السود (ماتسبين) وقد شكّلت "ماتسـبين" أول حركة احتجاج إسرائيلية تعترف بوجود الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة من أجل حقّه في تقرير المصير والاستقلال. صحيح ان الذي قادهم في هذا الكفاح هو يهودي الماني مناضل اسمه عكيفا اور، ولكن الاحتلال زجهم في السجون وأنشأ خلال الانتفاضة الأولى حركة شاس التي تحوّلت الى مطية يركبها كل رئيس وزراء غربي .
يوما ما. في يوم قريب، سوف يأتي قائد يهودي مناضل يزرع الوعي بين اليهود الشرقيين. وحينها سوف ينكشف الصراع الحقيقي داخل إسرائيل.
ما يحدث الان في إسرائيل مجرد بروفة لما سيحدث بعد خمس سنوات. او اقل، او أكثر.