الأحد: 12/01/2025 بتوقيت القدس الشريف

ابراهيم طوقان: الشاعر الذي نظم قصيدة "موطني" ... ومات قهراً

نشر بتاريخ: 12/04/2023 ( آخر تحديث: 13/04/2023 الساعة: 11:43 )

الكاتب: د.رفيق الحسيني

يُعتبر إبراهيم طوقان أحد الرواد الوطنيين للشعر الفلسطيني الحديث. ففي العشرينيات من القرن الماضي، وكانت الأمور قد بدأت تلتهب في فلسطين، تفجرت شاعرية طوقان في وقت مبكر، فتطبّع شعرهبطابع وطني ثوري، إذتغنى بالأرض، وهاجم من يبيعها، وحيا الثوار والشهداء، وانتقد تصارع الزعامات.

وتبقى قصيدة "موطني" أشهر قصائده، التي نظمها في العام 1934 وانتشرت اليوم في كل أرجاء الوطن العربي، وقد لحنها الموسيقار محمد فليفل، وأصبحت النشيد الوطني غير الرسمي لدولة فلسطين.كما أصبحت نشيد العراق، بعد الغزو الأميركي لهذا البلد سنة 2003.

فما هي قصة هذا الشاعر الفذ؟ وما هي القصص المخفية التي أحاطت به في حياته السياسية والعملية والتي أدت إلى أن يموت مريضاً ومقهوراً عن عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين ربيعاً؟

وُلدَابراهيم طوقان في العام 1905 في مدينة نابلس، إبناً لعبد الفتاح طوقان وفوزية عسقلان. وكان له أربعة أشقاء هم يوسف وأحمدورحمي ونمر، وثلاث شقيقات هن فدوى وفتايا وأديبة. وكان عبد الفتاح طوقان من رجالات البلد المرموقين ومن النشطاء الوطنيين.

تلقى ابراهيم دروسه الابتدائية في المدرسة الرشادية الغربية في نابلس، التي أمضى فيها سنوات الحرب العالمية الأولى، ثم انتقل، بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين، إلى مدرسة المطران في القدس، وهو في سن الرابعة عشر. وفيها، تَعرّف إلى الأستاذ نخلة زريق، وكان هذا ذا شخصية قومية وواسع الاطلاع على الآداب العربية والإسلامية. وصار ابراهيم يطّلع، بفضلشقيقه الأكبر أحمد الذي كان طالباً في مدرسة المطران غوبات (مدرسة صهيون) في القدس – علىمنتخبات الشعر القديم والحديث، وهو ما شجعه على أن ينشر في سنة 1923 أولىقصائده.

بعد أن أنهى تحصيله في مدرسة المطران، إلتحق ابراهيم بالجامعة الأميركية في بيروت في العام 1923. وكان قد اضطره مرض ألم به في ذلك العام إلى العودة إلى نابلس قبل انتهاء الفصل الدراسي الأول. وفي أثناء مرضه، نَظَمَ قصيدته في "الممرضات"، أو "ملائكة الرحمة" ونشرها - فور عودته إلى الجامعة - في جريدة "المعرض" التي كانت تصدر يومئذٍ في بيروت، فكانت أول قصيدة لفتت إليه الأنظار في لبنان.

في العام 1928 نال إبراهيم طوقانشهادته الجامعية في الآداب، ثم عاد ليدرّس اللغة العربيةفي مدرسة النجاح الوطنية. وعندما أخذت الحركة الوطنية في فلسطين بالركود في ذلك العام، وسادها الصّمت وإرتفعت أسهم السّماسرة والدّجالين، ورجحت موازين دعاة الوطنية الزائفة، ألقى طوقان قصيدة في حفلة نهاية العام الدراسي التي أقامتها كلية النجاح أعتبرت من عيون الشعر الوطني، واشتهرت منها بيوتاً قال طوقان فيها:

وطنٌ يُباعُ ويُشترى وتصيح: فَلْيحيَ الوطن!

لو كنت تبغى خيره لبذلت من دمك الثمن

ولقمت تضمد جرحه لو كنت من أهل الفطن

في تلك الأيام، في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، ومع وضوح مآرب الحركة الصهيونية بشكل كامل واستمرار الدعم البريطاني اللامحدود لاقامة وطن قومي يهودي في فلسطين بدأت زعامات البلاد تنقسم إلى ثلاثة اتجاهات سياسية:

الإتجاه الأول بزعامة موسى كاظم الحسيني، رئيس بلدية القدس الذي أقالته السلطات البريطانية ومن ثم أصبح - وهو في العقد السابع من العمر - رئيساً للمؤتمرات الوطنية ما بين 1920 و1934، وكان يؤمن بأنه – في تلك المرحلة الأولى من الانتداب – يمكن اقناع بريطانيا بالعدول عن مخططها اقامة دولة يهودية في فلسطين، وبأن وحدة كافة فئات الشعب الفلسطيني الذين تمثّلوا في المؤتمرات الوطنية المتعاقبة (عُقد آخرها في العام 1928) كانت على رأس سلّم الأولويات، وبأنه يجب المحافظة على تلك الوحدة الوطنية حتى لو كان ذلك على حساب إرضاء بعض القيادات الفلسطينية الراغبة بالتقارب من حكومة الانتداب، ومراعاة مطلبهم بعدم مجابهة البريطانيين بالعنف والثورة. لذلك فقد اعتمد هذا الاتجاه الدبلوماسية السياسية ولغة الحوار مع بريطانيا، مع انتهاج أساليب المقاومة الشعبية السلمية من تظاهرات ومؤتمرات ووفود لمناوئة السياسة البريطانية والحركة الصهيونية. وعندما توفي موسى كاظم في العام 1934، إثر ضربه بهراوات الشرطة البريطانية على رأسه خلال تظاهرة حاشدة في يافا، رثاه ابراهيم طوقان بقصيدة دلت على احترام وتقدير. وفي الوقت نفسه، انتقل غالبية مؤيدي هذا الاتجاه إلى تأييد الحاج أمين الحسيني.

الإتجاه الثاني بزعامة الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس الأكبر ورئيس المجلس الاسلامي الأعلى الذي سمحت سلطات الانتداب بانتخابه في ذلك المنصب رغم صغر سنه، في محاولة لابعاده عن الخط الوطني بل وكسبه لصالحها. ولكن الحاج أمين كان يؤمن (سرّاً في البداية وعلناً بعد اندلاع ثورة 1936) بأن المقاومة السلمية لإقامة "الوطن القومي اليهودي" لم تعد مُجدية، وبأن الأوان قد آن للتحضير لثورة شعبية مسلحة ضد بريطانيا التي، وبالرغم من خمسة عشر عاماً من التظاهرات السلمية والاجتماعات الغفيرة والوفود الحاملة للحجج الدامغة، إلا أن سياسة بريطانيا القائمة على تنفيذ تصريح بلفور لم تتغيّر قيد أنملة. وقد سانده في ذلك التحليل المثقفين الوطنيين الشباب من سكان المدن والغالبية العظمى من القرويين والفلاحين، الذين شاهدوا بأم أعينهم أراضيهم تُسرق أو تُباع من قبل سماسرة وعملاء عرب للحركة الصهيونية المُدجّجة بالأموال والمدعومة من قبل قوات الاحتلال البريطاني. وقد عُرف المؤيدون للحاج أمين بـ "المجلسيين" نسبة إلى المجلس الاسلامي الأعلى الذي ترأسه المفتي بعد انتخابات عقدت في بداية العام 1922.

الإتجاه الثالث كان بزعامة راغب النشاشيبي، رئيس بلدية القدس الذي عينته سلطات الاحتلال البريطاني بعد إقالة موسى كاظم الحسيني في العام 1920، وأصبح رئيساً لما عُرف بـ "المعارضة" لسياسة الحاج أمين الحسيني والمجلس الاسلامي الأعلى . وكان من بين أقطاب المعارضة معظم رؤساء المدن والبلدات المُعينين من قبل حكومة الانتداب ومنهم (بدون ذكر أسماء) رئيس بلدية رام الله، ورئيس بلدية حيفا، ورئيس بلدية عكا، ورئيس بلدية غزة، ورئيس بلدية جنين، ورئيس بلدية بيت جالا، ورئيس بلدية طولكرم، ورئيس بلدية الرملة، ورئيس بلدية الخليل، ورئيس بلدية نابلس، ورئيس بلدية يافا، ورئيس بلدية الناصرة، وعدد من كبار الشيوخ وبخاصة الذين نافسوا الحاج أمين على رئاسة الافتاء أو رئاسة المجلس الاسلامي الأعلى ولم ينجحوا. وكانت "المعارضة" تدعو إلى عدم معاداة بريطانيا العظمى والوثوق بنيّاتها وبالحكام العرب في الدول المجاورة لفلسطين، والاعتماد عليهم للوصول إلى "حل مرضٍ" لفلسطين!

في آب/ أغسطس 1929، بدأت موازين الأمور في فلسطين تنقلب لصالح المقتنعين بحتمية المجابهة المسلحة، فشهدت فلسطين هبّة "البراق"، التي قادها المجلسيون ضد الحركة الصهيونية وأطماعها في المقدسات الاسلامية، وقتل خلالها 116 فلسطيني و133 يهودي. يومها، قرر ابراهيم طوقان نظم مجموعة أشعار وطنية غير حزبية أو فئوية، ومن أشهر قصائده آنئذ "الثلاثاء الحمراء" التي ألقاها في احتفال مدرسة النجاح السنوي في حزيران/يونيه من العام 1930، ولم يكن قد مضى أكثر من عشرة أيام على إعدام ثلاثة مناضلين شاركوا في الهبّة وهم فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير، جاء فيها:

أجسادُهم في تربـةِ الأوطـانْ
أرواحُهم في جنةِ الرضوانْ
وهناك لا شكـوى ولا طغيـانْ
وهناك فيضُ العفوِ والغفرانْ
لا تـرجُ عفـوًا مِــنْ سـِـواهُ هــوَ الإلاهْ
وهـو الـذي ملـكـتْ يــداهُ كــلَّ جــاهْ

ثم نظم قصيدة "الفدائي" في العام نفسه جاء فيها

لا تسل عن سلامته روحه فوق راحته

بدلته همومه كفناً من وسادته

يرقب الساعة التي بعدها هول ساعته

ولما أيقن إبراهيم أن سماسرة بيع الأراضي أصبحوا عاملاً بارزاً ومؤثراً في تهويد البلاد، اشتدت نقمته عليهم وعلى باعة الأراضي وعلى الزعماء المتعاونين مع بريطانيا الذين سهّلوا بيع الأراضي، فنظم قصيدة قال فيها:

أمـاسـمـاسـرةُالبلادفعصبةٌ عـارٌعـلـىأهلالبلادبقاؤها
يـتـنـعـمـونمُكرّمين،كأنّما لـنـعـيـمـهمعمّالبلادشقاؤها
هـمأهـلنجدتها،وإنأنكرتهم وهـمُ،وأنفكراغم،زعماؤها
وحُـمـاتـهـا،وبهميتمُّخرابُها وعـلـىيـديهمْبيعهاوشراؤها
كيفالخلاصإذاالنفوستزاحمت أطـمـاعُها،وتدافعتْأهواؤها؟

وفي أيلول/سبتمبر1930، قرر ابراهيم هجر البلاد والعودة إلى بيروت، ربما لأنه لم يعد يحتمل أن بعضاً من زعماء عائلته وأصدقائه الأعزاء أصبحوا من كبار قيادات "المعارضة" المتعاونة مع الانكليز ومؤيديهم من الحكام العرب، وبخاصة بعد أن عرضت عليه الجامعة الأميركية التعليم في قسم الأدب العربي، فدرّس فيها عامين (1930- 1932). وفي نهاية العام الثاني لتدريسه في الجامعة، قدّم استقالته من العمل وعاد إلى فلسطين، حيث عاد إلى مزاولة مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية في القدس.

بيد أن المرض الذي أصيب به في معدته منذ أن كان طالباً في مدرسة المطران اشتد عليه، فأجريت له عملية ناجحة في كانون الثاني/ يناير 1933 ترك التدريس بعدها وعاد إلى نابلس ليكون قرب أهله واخوانه، فعمل في دائرة البلدية. وفي خلال سنتي عمله في البلدية، نظم إبراهيم العديد من القصائد الوطنية التي كان ينشرها في الصحف الفلسطينية، فيُقبل عليها القراء بشغف عظيم.

في آذار/مارس من العام 1936، قبل بداية الاضراب الكبير بشهر واحد، تسلّم إبراهيم طوقان عمله الجديد في القسم العربي في إذاعة القدس التي أسستها حكومة الانتداب في بداية ذلك العام، حيث وقع الاختيار عليهليكون مراقباً للقسم العربي فيها فوافق، ولكنه أصر على إستقلالية شبه كاملة في العمل، وعلى أساس ألا يُدخل الإذاعة في أمور سياسية - ما عدا نشرة الأخبار، فكان له ذلك. وقد احتضن ابراهيم القسم العربي، وتعهده بعنايته، ولكنه عمل في الوقت نفسه - وباسلوب ذكي - من أجل بثّ مضامين تبعث على استنهاض وعي الشعب وتوقظ فيه النقمة على الفساد، وتُذكّره بمآثر العروبة وعبقرية الأبطال الفاتحين. وفي العام 1937، تزوج ابراهيم من سامية عبد الهادي، فأنجبا طفلين هما جعفر وعُريب.

وفي مطلع تشرين الأول/أكتوبر من العام 1940، بعد مرور عام على انطلاقة الحرب العالمية الثانية، أقصت حكومة الانتداب البريطاني ابراهيم طوقان عن عمله في إدارة القسم العربي، وعينت عجاج نويهض – أحد مؤسسي حزب الاستقلال الفلسطيني، وصاحب مجلّة "العرب" التي كانت تصدر بالقدس - مديراً للقسم العربي في الاذاعة. وكان نويهض سكرتيراً للمجلس الإسلامي الأعلى أيام رئاسة الحاج أمين الحسيني للمجلس ومن كبار مناصريه، إلا أنه اضطر إلى ترك منصبه بعد لجوء الحاج أمين إلى لبنان هرباً من الاعتقال في تشرين أول/أكتوبرعام 1937. وكما يبدو، فقد قرر عجاج الانكفاء عن سياسة "المجلسيين" المُجابهة لبريطانيا، والتقرّب من جبهة "المُعارضة" الموالية للسياسة البريطانية، والتي ضمت عدداً من الشخصيات ورؤساء البلديات وعلى رأسهم رئيس حزب الدفاع راغب النشاشيبي. وكان الأخير قد خسر رئاسة البلدية في الانتخابات التي عُقدت في أيلول/سبتمبر 1934 لصالح المرشح المدعوم من قبل المفتي، وهو الدكتور حسين فخري الخالدي. (كما خسر في تلك الانتخابات عدد من رؤساء البلديات الموالين لبريطانيا).

بعد إقالته من منصبه في الاذاعة، قرر إبراهيم مغادرة فلسطين إلى أرض فيها حكم وطني وحرية رأي لقومي عربي مثله، فإتجه تفكيره – رغم مرضه – إلى العراق حيث لجأ الحاج أمين الحسيني ومعه ثلة من الوطنيين الفلسطينيين في العام 1939، وكان يرأس وزارتها قومي عربي هو رشيد عالي الكيلاني. فذهب - في كانون ثاني/يناير 1940 - مع عائلته إلى بغداد ليعمل معلماً في مدرسة الرستمية.

لكن لم يكد يمضي شهران على إقامته في العراق حتى اشتد عليه المرض مما حمله إلى العودة إلى نابلس في شهر آذار/مارس 1941. وفي وقت لاحق، بعد شهر من دخوله المستشفى الفرنسي في القدس، توفي ابراهيم طوقان في الثالث من شهر أيار/مايو 1941، عن عمر لم يتجاوز 36 عاماً. وقد شُيّع جثمانه في نابلس محمولاً على الأكف يتقدمه كشافة كلية النجاح الوطنية، ثم طلاب المدارس الوطنية، ثم أعضاء المجلس البلدي والوجهاء والعلماء وجماهير كثيرة، الذين قدموا واجب العزاء لآل طوقان وكذلك لحماه روحي عبد الهادي، وكان موظفاً سامياً في حكومة الانتداب.

كما أقيم لإبراهيم حفل تأبين كبير في نابلس في 13 حزيران/يونيو 1941، حضرته مجموعة كبيرة من الأدباء والشعراء العرب فخطب جمال القاسم باسم لجنة الاحتفال وتبعه اسكندر الخوري البيتجالي، والشيخ حلمي الإدريسي، وعبد الرحمن عبد المجيد، ونور الدين الماضي، ومحمد العدناني، وحسني فريز، وأحمد العمد، وراضي عبد الهادي، وخليل السكاكيني، وطاهر الطبري، وأحمد خليفة، وسيف الدين زيد الكيلاني، وأديب سقف الحيط (عن جلال زريق الذي كان متأثراً بوفاة صديقه) والأستاذ الشاعر أبو سلمى. وإختتم الحفل رئيس البلدية سليمان طوقان بإلقاء كلمة آل طوقان.

ولكن ما حقيقة إقالة ابراهيم طوقان من منصبه كمدير للقسم العربي في اذاعة حكومة الانتداب في 1940؟

روى طالب مُشتاق، القنصل العراقي العام في القدس في تلك الفترة، في مذكراته، عن معرفته بحدوث خلاف بين إبراهيم طوقان وعجّاج نويهض، ويقول أنّ صديقه جلال زريق، وكان موظفاً في القسم العربي من السكرتارية العامّة في حكومة فلسطين، راجعه يوماً وأبلغه بأنّ إبراهيم فُصل من عمله في دار الإذاعة "لخلاف نشب بينه وبين عجاج نويهض، مدير القسم العربي [الحالي] بدار الإذاعة"، وطلب زريق من مشتاق تأمين عمل لإبراهيم في العراق، الأمر الذي لبّاه مُشتاق، إذ عُيِّن إبراهيم أستاذاً للّغة العربية في إحدى المدارس الثانوية.

وقد خصّص عجاج جانباً من ذكرياته عن العمل في الإذاعة (في مذكراته "ستون عاماً مع القافلة العربية") لمسألة خلافه مع ابراهيم، مُعزياً إياه لأسباب شخصية بحتة، فروى أنّ الذي بادر بالعداء والمشاكسة هو ابراهيم، لأنّه "لم يرتح إلى مجيئي للإذاعة، وصار يُعرب، رحمه الله، عن إستيائه هذا بطرقٍ مختلفة". وأضاف نويهض أن ابراهيم كان يسعى لدفعه للاستقالة من الإذاعة من خلال مضايقته.

ولكن وقوع خلاف شخصي بين شخصين لا يمكن أن يكون السبب الحقيقي – أو الوحيد - لفصل شاعر مشهور ومحبوب وابن عائلة مرموقة في نابلس (وكان أحد زعمائها رئيساً للبلدية وموالياً لبريطانيا) من منصبه كمدير للقسم العربي في الاذاعة من قبل السلطات البريطانية في وقت كان الاحتلال بحاجة لتحييد شعب فلسطين وفصله عن النهج الثوري التي انتهجه الحاج أمين الحسيني ضد الانكليز والصهاينة.

وللبحث عن السبب الحقيقي، لابد من العودة إلى صيف العام 1940، عندما بدأت الإذاعة وبعض صحف فلسطين - ومنها جريدة "فلسطين" - بتسويق شخصيات موالية لبريطانيا، ومنها فخري النشاشيبي، وهو أحد قادة "المعارضة" وكان قد شكل في العام 1938 مجموعات عربية مسلحة نعتها بـ "فصائل السلام"، موّلها وسلّحها البريطانيون والصهاينة. وكان الهدف من "فصائل السلام" ضرب فصائل الثوار واضعافهم وتشويه سمعتهم. وكانت جريدة فلسطين نفسها، قبل عام ونصف، قد نعتت فخري بأسوأ الكلمات واصفة فعلته بالـ "نكراء" بعد إرساله كتاب إلى المندوب السامي في عز الثورة - في نوفمبر 1938 - يتهجم فيه على الحاج أمين الحسيني وقيادة الثورة، وحملت عليه بشكل لا مثيل له آنذاك ونشرت مئات برقيات الاستنكار لفعلته! ولكن وبفعل فاعل، بعد وقوع الحرب العالمية الثانية، بدأت جريدة فلسطين نقل أخبار فخري كأحد أهم قيادات الشعب العربي في فلسطين. وكمثال، قامت الصحيفة بنشر كلمته في اجتماع يافا في 7 آب/أغسطس 1940 والتي أعلن فيها أن مصير العرب الفلسطينيين "مرتبط بمصير الديمقراطية التي تدافع بريطانيا العظمي عنها ... دفاع المستميت لتحقيق المُثل العليا والأهداف النبيلة..." وفي 17 آب/أغسطس من العام نفسه - نشرت "فلسطين" خبراً مُستفيضاً عن الحفلة التي أقامها "فخري بك النشاشيبي وعقيلته لقواد وضباط الجيش البولوني المُحالف" والتي

"... حضرها أصحاب السعادة قناصل الدول الإسلامية بالقدس وأصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الاسلامي الأعلى ومفتش المحاكم الشرعية وكبار ضيوف القدس ومن بينهم صاحب السعادة جبرائيل تقلا باشا صاحب "الأهرام" الغرّاء، والوجيه توفيق بك مفرّج والسيدة عقيلته، وحضرة مدير الأوقاف العام، وفضيلة شيخ الزاوية المولوية ... فكبار ضباط الجيش البريطاني وقد عرفنا من بينهم سعادة قائد الطيران العام ورئيس أركان الحرب، فكبار موظفي حكومة فلسطين وضباط البوليس وغيرهم كثيرون من الأدباء ورجال الصحافة في البلد. وقد قدم جميعهم تلبية لدعوة الأستاذ فخري بك والسيدة عقيلته إلى حفلة الشاي التي أقامها على شرف قُواد وضباط الجيش البولوني المُحالف في فلسطين ... [وقد] إختلف الجميع إلى موائد الشاي والحلوى والفاكهة التي حفلت بكل شيء شهي لذيذ ... وأمضى الكل وقتاً بهيجاً للغاية ..."

وقد حضر عجاج نويهض، وكان آنذاك موظفاً في القسم العربي في الإذاعة بالقدس، حفل الشاي هذا بالاضافة إلى مجموعة من قيادات "المعارضة" وعدد من الشخصيات الموالية للحكم البريطاني. ويقول البعض أن حضور نويهض لذلك الأجتماع كان أحد أسباب الخلاف الذي تفاقم بعد أسبوعين بين عجاج نويهض ومديره إبراهيم طوقان، حيث اعتبر الأخير أن حضور الأول لحفل أقامه مؤسس "فصائل السلام" أعطى انطباعاً بأن الاذاعة الناطقة بالعربية وبإشراف فلسطيني ليست محايدة وبأن العاملين فيها منحازون لبريطانيا ومعادون لثورة فلسطين الكبرى، في الوقت الذي كان مجموع الشعب الفلسطيني يحقد على بريطانيا لقمعها ثورته الكبرى وتنكيلها بالثوار.

وتؤكد الشاعرة فدوى طوقان، شقيقة ابراهيم وكانت تعيش معه وأسرته في القدس، في مذكراتها "رحلة جبلية، رحلة صعبة، سيرة ذاتية" – أن موضوع فصله من الإذاعة كان قضية سياسية، شارحة أنّ ذلك حدث في تشرين أول/أكتوبر 1940، نتيجة لاحتجاجات اليهود ضد ابراهيم بعد أن اتهموه بترويج اللاساميّة من خلال أحاديثه الإذاعية، ونقلت ترجمةً لأقوالٍ نشرتها الصحف العبرية الصهيونية تحتج على ما أذاعه طوقان عن "السموأل"، الشاعر اليهودي الذي اختلف مؤرخو الأدب العربي حول وجوده أصلاً وحول علاقته المزعومة بأمرؤ القيس. وقد أضافت فدوى بأن الحكومة البريطانية ناقشت ابراهيم في الموضوع، "فردّ عليها رداً علمياً ومنطقياً".

ولكن، بحسب ما كتبته فدوى، عندما اشتدت الرقابة على الإذاعة خلال الحرب العالمية، "قام بعض المشرفين عليها من منافسيه العرب بالتحريض عليه لدى السلطات البريطانية، وقام الدسّ، وكان دسّا ً لئيماً فإتهم بتسريب الدعاية في برامجه ضد الحلفاء، وأقيل من مصلحة الإذاعة الفلسطينية ليأخذ منافسه مكانه". ومع أن فدوى لا تذكر تفاصيل عن "الدسّ" ضدّ أخيها، ولا اسم الشخص العربي الذي اختلف أخوها معه، ولكن يمكن الاستنتاج أنها كانت تقصد عجاج نويهض كونها كتبت أنّه أخذ مكانه في العمل.

كما توضّح قصة أوردها اسحق درويش أحد القياديين المقربين من الحاج أمين الحسيني في مذكراته، طبيعة الدسّ الذي جرى ضد إبراهيم طوقان وهي عبارة عن ملاحظة دونّها درويش في بغداد بتاريخ 29 أكتوبر 1940 جاء فيها أنه" في كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ قصة شخص وجد عقد لؤلؤ بينما كان يطوف في الكعبة، وأعاده لصاحبه، وكان بينهما علاقة ودية، ووفاءً بالعهد. إتخذ ابراهيم طوقان هذه القصة موضوعاً يلقيه على الأطفال، ودعا الشخص الذي أعاد عقد اللؤلؤ أميناً، وصاحب العقد الذي وفى لمن وجده وفاءً..." وبعد إلقاء القصة، هناك من "أوهم السلطة أن المقصود من هذه القصة الاشادة بفضائل السيد محمد أمين الحسيني."

وبالفعل، فقد أخذت الإذاعة في القدس - بعد إقالة ابراهيم طوقان - منحاً جديداً في الإعلام المُوجّه لصالح بريطانيا وحلفائها، فمثلاً فرضت السلطات البريطانية على مديرها الجديد أن يسمح لأحد المسؤولين في حكومة الانتداب بالقدس (جيمس سومرفيل) بإلقاء حديث مُترجم للدعاية عن زيارة المستر كيث روش حاكم القدس البريطاني إلى قرى قضاء رام الله واستقباله هناك بالأرز والزهور من قبل مخاتير المنطقة ووجهائها واقامة الولائم على شرفه. كما تم احضار الأدبين المصريين عباس محمود العقاد وعبد القادر المازني إلى فلسطين، وكانا انكليزيا الهوى، فتحدثا في اذاعتها عن مكارم أخلاق بريطانيا ومحاسن ديمقراطيتها ولم يوفرا جهداً في قدح ألمانيا وايطاليا ودول المحور الأخرى.

ولذلك فمن الممكن الجزم بأن شاعر فلسطين الكبير أقيل من وظيفته ليس بسبب خلاف شخصي (أو حقد دفين) مع شخصية فلسطينية أخرى، وإنما بسبب تصديه لمطلب حكومة الانتداب استخدام القسم العربي في اذاعة فلسطين للدفاع عن مناقب بريطانيا العظمى وديمقراطيتها التي ليس لها مثيل وللهجوم على ألمانيا وإيطاليا وتأليب الرأي العام العربي عليهما.

وللأسف فقد لعب بعض الوجهاء الفلسطينيين الذين أشادوا بالأمبراطورية البريطانية وعظمتها وحبها للحق والواجب في تلك الفترة، دورعازفي الموسيقى على السفينة "تيتانيك"، فعزفوا أحلى الألحان والباخرة تغرق في المحيط، ففنى الركاب ولحق بهم العازفون ... ولم يشفع لهم عزفهم الجميل ولا ولائهم الكبير لمالكي السفينة الغارقة!