الكاتب: د. حسن عبد الله
أحيت الكلية العصرية الجامعية قبل عشر سنوات مئوية الشاعر الكبير عبد الرحيم محمود بمبادرة رئيس مجلس أمنائها المرحوم المحامي الدكتور حسين الشيوخي، وأصدرت في المناسبة كتاباً أعده المرحوم الباحث جهاد صالح. أقيمت الاحتفالية بحضور نجله الطيب عبد الرحيم وبالشراكة بين "العصرية" واتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين الذي مثله أمينه العام الشاعر مراد السوداني.
وقد شَرفتُ بإدارة الاحتفالية التي افتتحتها بتقديمٍ تحت عنوان:"روح عبدالرحيم محمود تقبّل تراب الوطن وخدّ القصيدة". ومن ضمن ما قلته في التقديم: "إن هذا المبدع والوطني الكبير الذي ارتقى مضمخاً بحب الوطن، جعل القصيدة تمشي على قدمين كأنها إنسان، تأكل الزعتر كما يأكله الفلسطيني، وتهدهد أطفال الفلاحين في ليالي البرد كما تفعل القرية، وتعلف الدجاجات بحرص عجوز ريفية، وتكتب كلمة وطن بحماسة تلميذ في الصف الأول الابتدائي، قد أمسك للتو بمبادىء الإملاء…."
أشعر بحزن شديد كلما تذكرت هذه الاحتفالية بفقراتها والقائمين عليها والمشاركين فيها، بعد أن رحل عدد من الذين كانوا على المنصة، وأقصد المحامي الدكتور حسين الشيوخي والطيب عبد الرحيم والشاعر أحمد دحبور والدكتور حنا عيسى والباحث جهاد صالح، وكذلك الشاعر الكبير سميح القاسم الذي شاركنا عبر الهاتف. لأرواحهم جميعاً الرحمة والسلام وأطال الله في أعمار الآخرين.
بعد يوم واحد كتبت مقالاً ذكرت فيه: "أن الأصوات في الاحتفالية تمازجت، صارت صوتاً واحداً. خرجت الكلمات من حناجر المتحدثين إلا أن الصوت كان صوت روح عبد الرحيم محمود التي أصرت أن تبارك المتحدثين والحضور، وتعطر القاعة ورداً وشعراً وسموا….".
عندما فكرت في كتابة تقديم لمقالي هذا الذي أخصصه لكتاب: "عبدالرحيم محمود شاهد ومشهود" للباحث والكاتب المجتهد المثابر طارق عبد الكريم محمود، لم أجد أفضل من ذكرى احتفالية مئوية الشاعر لخصوصيتها.
- كتاب شامل:
ما أنجزه الباحث ليس كتاباً عادياً، بقدر ماهو عمل موسوعي بعناوينه وتفاصيله، وبما تضمنه من جديد في معلوماته، حيث أمضى الباحث سنوات طوالا يجمع ويحلل مادة غنية، أفرد لها 496 صفحة، ليتكلف لاحقاً بنفقات النشر والتوزيع. باحث انكب على المراجع والوثائق دون كلل، ليقدم هذا الكتاب هدية منه موقعة بالتعب والسهر وطول النفس وقبل ذلك بالوفاء.
- خصوصية الكتاب للمؤلف
عبد الرحيم محمود عم الباحث، وهو الذي اختار له اسم "طارق"، وعندما استشهد العم في العام 1948 كان الطفل في السادسة من العمر.
في بيت الأسرة تحولت "طفولة طارق" إلى قصص يرويها الكبار عن المناضل الشاعر، أي أن الباحث لم يعش سيرة العم في الكتب فقط، وإنما استمع إليها في الطفولة عشرات بل مئات المرات، وتواصل معها في الشباب والكهولة، وكأن التأريخ للعم مهمته الرئيسة التي تداخل فيها الوطن وذكريات الطفولة والشعر والتضحية.
- الأهمية التاريخية الكتاب
كتاب "شاهد ومشهود" هو الأشمل مقارنة بما كُتب ونشر من قبل،بالرغم من أهمية بعض الإصدارات الأخرى، خصوصاً وأن الكتاب تناول مراحل تجربة هذه القامة الباسقة بمعطياتها وحيثياتها من خلال عرض تاريخي بامتياز، نظراً لأن الباحث استمد مادته من مصادر موثوقة، بعد أن عكف يجمع معلوماته ويمحصها، قبل أن يعتمدها بشكلها النهائي.
ورد في الكتاب كثير من المواقف والتفاصيل التي لم يتناولها إصدار آخر حول عبد الرحيم محمود. لم تشف غليل الباحث المراجع المكتوبة والمنشورة، فلجأه إلى شهادات أقارب وأصدقاء ومعارف ومعلمين زاملوا الشاعر في مهنة التعليم.
-القيمة الأدبية
ظل الشعر حاضراً في تجربة عبد الرحيم محمود، كان يتنسمه كما يتنسم الهواء، ومن خلاله عبر عمّا رأى وتألم وأحب وحلم.
حملته القصيدة إلى كل الوطن وإلى فضاءٍ تجاوز حدود الوطن. شاعر كتب بأعصابه وعرقه ودمه، فجاءَت قصيدته تشبهه تماماً، واضحة صريحة، طازجة، معفرة بالتراب.
ولأن الباحث كان متيقظاً لأهمية كل حرف سطره الشاعر إبداعاً، عمل على جمع كل ما استطاع جمعه واضعاً القصيدة في سياقها الزماني والمكاني والدلالي، لذا يمكن القول بأعلى الصوت: إن هذا المرجع مثابة كتاب العمر بالنسبة إلى الباحث، الكتاب الأكثر دقة وتنوعاً وتسليطاً للضوْء على شعر عبد الرحيم محمود.
-شاهد ومشهود
عاش عبد الرحيم محمود عمراً قصيراً، لكنه كان عمراً مضغوطاً مكثفاً، حيث ارتقت روحه إلى العلا وهو في الخامسة والثلاثين من العمر. كان شاهداً على أحداث جسام في بلادنا وفي البلاد العربية الشقيقة أيضاً.
شهادته هي شهادة المعلم والمثقف والشاعر، أي شهادة إنسان امتاز بمواصفات وأبعاد، تقدم فيها على معاصريه، لأنه رأى الأمور من اتجاهين دقيقين الأول منظار الانتماء والثاني منظار المتعلم المثقف والمبدع.
أما من شهدوا له ولتجربته ووطنيته وشاعريته فهم كثر (من أهل بلدته، ومن البلدات المجاورة، ومن طلبته وزملائه). كانت شهادتهم معنونة بالفخر والاعتزاز.
-وفاء الباحث وسلاسة أسلوبه
كانت أمانة الباحث بوصلته التي وجهت هذا النتاج التأريخي المهم. وعلى الرغم من انشداده العاطفي وحماسته للكتابة عن عمه، إلا أن ما ورد في الكتاب جاء واضح المصادر.
من المهم أن أذكر هنا أن خلفية الباحث الأدبية أضفت رشاقة وجمالاً على عرض المادة، فالأسلوب التشويقي يحفز القارئ على الاستمرار في متابعة العناوين والتسلسل مع المادة دون أن يشعر بالتعب أو الملل. إنها مادة بحثية مترابطة وإنْ تعددت عناوينها واتسعت معالجتها، تحفز على القراءة، وكأن القارئ لا يتابع عملاً بحثياً بل رواية بفصول مترابطة.