الكاتب: العميد أحمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
أيام وتحل علينا ذكرى النكبة الفلسطينية التي شكلت ولا زالت الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الرواية الفلسطينية، كما أنها كانت الباعث للمقاومة الفلسطينية المسلحة وغير المسلحة ويعتبر التصميم على التخلص من نتائجها الكارثية هو المحرك لكل السياسات الفلسطينية.
وكان الشعب الفلسطيني الراقي والمتحضر والواعد والمسالم وفق معايير وتصنيفات الأمم (المتحضرة) التي كانت سائدة في حينه وفقاً لنص المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، والمساهم بناء على ذلك في ترقي الإنسانية جمعاء، قد تعرض لأبشع الجرائم المستمرة التي شهدها القرن العشرين، حين تعرض لحملة إستعمارية إستيطانية من قبل قوى إستعمارية غربية متكبرة ومتجبرة ومتغطرسة ومستعلية، وظفت خلالها كل وسائل الإستعمار الإستيطاني من إبادة جماعية وتطهير عرقي وفصل عنصري وتهجير لإقامة مستعمرة صهيونية كوطن قومي لليهود حول العالم.
وتظهر دراسة تاريخ المشروع الإستعماري الإستيطاني الصهيوني في فلسطين أن هناك علاقة إرتباط عضوي بين مراحل تنفيذ هذا المشروع أو بالأحرى النجاحات الإستراتيجية التي تحققت في صناعة وحماية وجود ثمرة هذا المشروع (إسرائيل)، وتحولات النظام الدولي، الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل، هل سيحقق اصحاب هذا المشروع نجاحات إضافية أخرى على حساب الفلسطينيين والعرب والمسلمين في هذه المرحلة الجارية الآن من مراحل تحول النظام الدولي؟
إذ يشهد النظام الدولي حالة من التحول التي بدت أنها تسير ببطئ العام 2008، حيث برزت أزمة العقارات في السوق الأمريكية، ثم أعقبتها الأزمة المالية العالمية العام 2009، إلا أن هذه الوتيرة بدأت تتسارع مع صعود الرئيس ترامب لسدة الحكم العام 2016 محمولاً على شعار (أمريكا أولاً)، ثم وصلت هذه الوتيرة لنقطة الذروة مع إندلاع الحرب الروسية الأطلسية على أرض أوكرانيا في شهر شباط/فبراير العام 2022، حيث يسكن البيت الأبيض رئيس وصل اليه العام 2020، محمولا على شعار (عودة أمريكا)، الذي ينطوي على مقاربة أمريكية للنظام الدولي مختلفة البتة عن مقاربة سلفه، ولا تستبعد إندلاع حرب كونية جديدة في نهاية العقد الجاري وفقاً لإستراتيجية بايدن للأمن القومي المنشورة بتاريخ .
من جهتها منطقة الشرق الأوسط التي كانت منذ نشوب الحرب العالمية الأولى العام 1914 من ابرز الساحات الإقليمية مسرحاً لصراع القوى العظمى المتصارعة على قيادة النظام الدولي خلال كل مراحل تحول هذا النظام، فقد شهدت بدورها وتحديداً منذ العام 2011 ما عرف بالربيع العربي أو عشرية الدم، والأهم أنها لا زالت تعيش أثار وتداعيات هذه العشرية حتى تاريخه.
فخلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي شهدت نهايتها تحول في النظام الدولي الذي نشأ بعد توقيع معاهدة وستفاليا التي أنهت حرب الثلاثين عام في أوروبا حيث تسيدت دول الحلفاء بقيادة المملكة المتحدة البريطانية المنتصرة في الحرب قيادة النظام العالمي، صدر وعد بلفور العام 1917 عن بريطانيا الذي اسس للنكبة الفلسطينية بدعوته لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين التي كانت في حينه جزء من الإمبراطورية العثمانية المنهزمة في الحرب.
ومع نشأة المنظمة الدولية (عصبة الأمم) في حينه تمكنت بريطانيا المهيمنة على النظام الدولي من تحويل وعدها العام 1922 الى وثيقة دولية صادرة عن المنظمة الدولية تحت مسمى صك الإنتداب الذي بدوره كلف بريطانيا بالانتداب على فلسطين والعمل على تهيئة إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين طبقاً لنص وعد بلفور.
وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية (1939-1945) نشأ نظام دولي جديد عرف بنظام القطبين، الحلفاء بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، والمحور بزعامة الإتحاد السوفيتي، أعلن عن قيام دولة إسرائيل العام 1948.
تجدر الإشارة هنا الى انه فيما شهد العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حرباً شرسة دارت رحاها بين قطبي النظام العالمي عرفت بالحرب الباردة، إلا أن منطقة الشرق الأوسط شهدت أعنف الحروب وأكثرها دموية بين الكيان الجديد الناشئ في المنطقة ودول المنطقة التي أعلنت في حينه أنها في حالة حرب وعداء مع هذا الكيان، وقد اسفرت هذه الحروب لا سيما حرب العام 1967 عن إحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية) التي كانت بيد المملكة الأردنية، وقطاع غزة الذي كان بيد مصر، علاوة على إحتلالها شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية.
ومع إنهيار الإتحاد السوفيتي العام 1991 نشأ النظام العالمي المعروف بنظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، شهد الصراع العربي الإسرائيلي تحولاً جذرياً إذ انتقل من حالة العداء والحرب والمقاومة المسلحة، إلى حالة التسوية السياسية والسلام.
صحيح أن مصر كانت قد وقعت إتفاقية سلام مع إسرائيل العام 1979، إنسحبت على أثرها الأخيرة من شبه جزيرة سيناء وفق شروط تضمنتها اتفاقية كامب ديفيد، إلا أن وتيره التسوية زادت بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكة على النظام العالمي، حيث ابرمت اتفاقية اوسلو العام 1993، ووادي عربة العام 1994 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وحكومة المملكة الهاشمية الأردنية.
وفيما يظهر ما تقدم حالة الإرتباط الوثيق بين تثبيت وجود إسرائيل كثمرة المشروع الإستعماري الإستيطاني الغربي في فلسطين، وتحولات النظام الدولي، إلا أن الوقائع على الأرض تثبت عدم نجاح أصحاب هذا المشروع على تنفيذه وتطبيقه وفقاً للوعد الصادر عن بريطانيا في حينه، إذ يبين مسار تنفيذ المشروع عن سلسلة من التراجعات.
وقد تمثل أول هذه التراجعات في مرسوم دستور فلسطين الصادر عن جلالته العام 1922، إذ تراجعت بريطانيا تحت وطأة رفض اصحاب البلاد الصلانيين لهذا الوعد، في هذا المرسوم عن تخصيص فلسطين التاريخية التي تضم شرق الأردن مع فلسطين كوطن قومي لليهود، الى فلسطين الإنتدابية التي تضم فلسطين الممتدة من النهر للبحر.
وثاني هذه التراجعات يتمثل في قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1947، الذي قسم فلسطين الإنتدابية الى دولتين واحدة لليهود والثانية للعرب وابقاء القدس تحت الوصاية الدولية.
وعلى الرغم من النكبة بكل ما تضمنته من إبادة جماعية وتطهير عرقي وتهجير جماعي نفذته عصابات الصهيونية برعاية بريطانية في حينه، واحتلالها لمساحات أكبر مما خصصه قرار التقسيم للدولة اليهودية، إلا أن مبدأ حل الدولتين الذي دعى اليه العام 2002 الرئيس بوش الإبن وتوافق عليه المجتمع الدولي برمته، يمثل التراجع الثالث في عدم قدرة أصحاب المشروع الإستعماري على اقامة الوطن القومي لليهود على كل فلسطين الإنتدابية.
وأمام هذه الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أو التعامي عنها، علاوة على جملة أخرى من الحقائق التي من أبرزها الحقيقة الديمغرافية التي أصبح فيها عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين الإنتدابية أكبر من عدد المستعمرين الصهاينة، ثم حقيقة التحول الجاري في النظام الدولي التي تبدو أنها تسير في غير صالح القوى العظمى الشريكة للحركة الصهيونية في صناعة إسرائيل، وكذلك حقيقة التحولات الإقليمية التي تجري في غير المصلحة الإسرائيلية، ثم حقيقة التفكك والتآكل الذي تشهده إسرائيل الآن، فالمنطق يقول أنه قد آن الأوان لرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، ليس هذا فحسب بل ومعاقبة مرتكبي ومنفذي جريمة النكبة المستمرة، ولعل القرار الأخير الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والقاضي باحياء الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية العام 2023 لأول مرة رسمياً في قاعة الجمعية كحدث رفيع المستوى، ودعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لالقاء كلمة بهذه المناسبة، يعتبر من أبرز المؤشرات على ذلك.
في النهاية تؤكد هذه المقالة أنه في حال وقوف النظام الدولي الجديد على قدميه، فإن قواه العظمى المشكلة لقيادته لن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينين، الأمر الذي يوجب علي الفلسطينيين، على الأقل لمنع إسرائيل وشركائها من تحقيق نجاحات أخرى اضافية في هذه المرحلة من مراحل تحول النظام الدولي، إجراء التغيرات المطلوبة وفقاً لقوله تعالى في سورة الرعد:11 {أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.