الكاتب:
أحمد سلامة
غابرييل غارسيا ماركيز اكد في انحيازه لابهى ضروب الكتابة لـ لون (التحقيق الصحفي)، وكنت المذعن لاستاذية (غابو) في ذلك برضا، لانني ابن هذه المدرسة في الكتابة وخير ما انتجته في حياتي من وجهة نظري كان يتعلق بهذا اللون من الكتابة (التحقيق الميداني).. لكن فجر هذا اليوم حين اتممت قراءة كتاب عذب خلاصة روح مناضلة عالمية وليست فلسطينية وحسب هي السيدة انتصار الوزير / ام جهاد في ليلة واحدة (رفقة عمر) وهي سيرة حسنة سامقة لمناضلة ستبقى ابد الدهر احدى ايقونات فلسطين..
هل قلت ؟! حين اتممت كتاب السيرة هذا غيرت من موقفي واجاهر به ان خير ضروب الكتابة هي كتابة (السيرة)! من سيرة ابن هشام اول النبل النبوي رغم ما اعتراها من ملاحظات حتى اخر سيرة قرأتها لـ ام جهاد، ثمة تفوق لا ينافسه تفوق في هذا النمط من الكتابة.. كتابة السيرة بوح انساني وهي صورة للماضي نجوسه من خلال حاضرنا وكذلك .. فيها قدرة على تحوير الحزن الى يقين راسخ وتجعل من لحظة القتل مهرجانا وبساتين حياة….
ابدأ….
لم يعرف عن ام الجهاد الفلسطيني (انتصار) انها كاتبة، لكنها عرفت في اوساط فلسطينية مرموقة على انها كانت مصدر الالهام واول الرقة والونس في روح ذلك الكبير الذي تداور على قتله كل قطاعات (جيش الجنون اليهودي) اشفاء لغليل حقود تركوا في جسده ٧٧ رصاصة
وياتي كتاب تخليد ذاكرة ام جهاد كرصاصة واحدة في رأيي اعنف واشد فتكا واكثر دواما في الجسد اليهودي من ٧٧ رصاصة تركها يهود في تونس وديعة في جسد ذلك المناضل الطيب…
في سيرة السيدة انتصار الوزير لدي بعض مصادفات غريبة وفيها سحر انساني…
قرأت في (عمون) الرصيف الذي احرص على قراءة الحال الوطني عبره تحليلا او عرضا لكتاب السيدة الباهية ام جهاد.. طلبته من كشكنا (عنيت كشك جيلنا المعرفي) يزن ابن المرحوم المنارة الذهبية في قاع عمان ابو علي، وكشكه اضحى قمة عمان في قاعها.. الكتاب، وبكل دماثة الوالد التي اورثها لابنائه قبل الكشك اجابني (والله يا عمي نفذ الكتاب خلال ثلاثة ايام) لكن ساطلبه لك واستلمته بعد شهر او يزيد كنت مشتبكا مع كتاب امين المعلوف (غرق الحضارات) وبعده مقالة (اعدتها) الدكتورة المبدعة المدهشة في مثابرتها (وفاء الخضرا) عن رواية ابي النحس المتشاءل لاميل حبيبي، الذي شغل عقول كل جيل السبعينيات بجسارات وجراته حين صدرها علامة بقاء فلسطينية
لعرب النكبة الاولى
لحظة ان باشرت قراءة سيرة الباهية والباذخة في فلسطينيتها ام جهاد تلقيت رسالة عبر الواتس اب من ابنة عمي وكريمة عميد (حمولتي) من رام الله الدكتورة اريج مصطفى عودة وهي التي مشت على خطوات ام جهاد في تعميق روح التحدي الوطني لدى المرأة الفلسطينية وكذلك هي زوجة المناضل العنيد الذي قضى في سجون يهود كل عمره ابن القطاع الغربي، ابو الفادي (قدري ابو بكر سلامة) الذي يحمل حقيبة الاسرى في السلطة الوطنية من تحت الاحتلال، اخبرتني فيها بوفاة المناضل ابو فارس (مرعي عبد الرحمن) صديق الوعي والحروف الاولى واستاذ التوجيه المعرفي الذي علمني ان كلوود كاهن اول من فهم تاريخ امة العرب…
واخبرتها بقراءتي للسيرة فقالت لي انا اجالس ام جهاد في بيت العزاء..
وفي احدى ايام البحرين حين كنت هناك جاءني طلب من اخ عزيز هو سعادة سفير فلسطين يطلب الي تسهيل لقاء ممثل البنك الدولي (الدكتور جهاد الوزير) مع سمو ولي عهد البحرين الشيخ سلمان بن حمد ال خليفة حفظه الله، حيث كنت اعمل مستشارا في ديوان سموه..
سألت ابو ادهم السفير الامني الدهري الفاضل جهاد ما غيره؟! وفي البنك الدولي؟
ابتسم بالايجاب..
تشرفت بدعوة جهاد في ذات الليلة لمنزلي وجمعت له كل ما استطعت الى ذلك سبيلا.. الحق، اني كنت اشمشم في جهاد (بقية ريا) على حد تعبير النواب!!
صرنا اخوة من تلك الليلة وجهاد فيه سلاسة ونورانية كأبيه واشارات جسده كما ابو جهاد تأخذك الى عالم فلسطيني كله.
التقى سموه في اليوم التالي، وأخذ كل وقته واعجب سموه بدماثة خلقه وعميق اطلاعه ونظرته الكلية للاقتصاد العالمي، وتكررت اللقاءات، ثم التقينا في عمان، ودعوت له مجموعة اردنية تزهو بوعيها عمان…
وحين قسا عليه احد الزملاء بالقول "انت موقعك يا جهاد بين افراد شعبك، هناك في فلسطين وفاء للجسد الذي مزقته الرصاصات الغادرة، واكمل ثمة خيانة للرصاص ان بقيت في البنك الدولي".
تذمر بعض الحضور من القسوة في اللفظ لكن جهاد اخذه الى عالم من النجابة واخذنا معه بليونة وسكينة اجاب اجابة علمية، في اليوم التالي حكى لي معركة تصفية الوالد على لسان ام جهاد وظلت مرة الطعم والمذاق لانها قاسية انسانيا حتى قرأتها بين دفة كتاب ام جهاد..
وانا بدوري اهدي هذا المقال للصديق والاخ والغالي جهاد خليل الوزير، الذي من حقه علينا ان نتباهى بعمل والدته الابداعي والذي جاء ثمرة كفاح مهيبة لكل فلسطينية ولكل عربية ولكل انسانة ترى ان الانسانية مطلقة ولها معيار واحد لا يختلف بين انسانية الاوكرانية التي تدعى لتنصيب اعرق الملوك وتغفل انسانية شيرين ابو عاقلة..
كتاب ام جهاد درس وطني وقومي اشجع كل من يحب القراءة البريئة والصادقة ان يقرأه لان فيه حكمة ورعة وفيها موضوعية لم ارها في حياتي لدى كل كتابنا، إذ أن العواطف تأخذنا والأنانية تأسرنا ومصالحنا تقيدنا واحيانا جنوننا يطغى على واقعيتنا..
إلا السيدة الباهية ام جهاد كانت صورة من صور التصوف الذي يحترم ويبجل.. ساستل من الكتاب اربعة زوايا او اربعة صور او اربعة مشاهد
لانير درب القاريء الى اهمية وخطورة الكتاب
الاولى:
لقد كتب الكثير عن احداث (ايلول / سبتمبر) المخزنة سنة ١٩٧٠، وصمت اكثر عن نتائجها، لكن اول مرة اجد نصا بين يدي يعمل على تحفيز الذاكرة الوطنية على شاطئ النهر لتقبل الحدث بسلاسة المحب ويقين العارف، ليس الطف من ام جهاد في تناول كل شيء جرى
هذه رواية يعتد بها ويبنى عليها ويجب اعتمادها لنفي تأثير المحرضين وذوي النوايا، ظلت على ادب رفيع لم تستعمل حرفا جارحا لاهداب حدقتي العينين الاردنية والفلسطينية.
الثانية:
اقدمت السيدة ام جهاد على رسم صورة من وجهة نظرها لحكام تاريخيين ثلاثة لتلك الحقبة المغفور له سيدنا الملك الحسين بن طلال
والمرحوم سيادة الرئيس حافظ الاسد والمرحوم العقيد معمر القذافي عقب استشهاد ابو جهاد التقتهم ثلاثتهم ولقد اغترفت من قلبها النابض بالصدق والدقة والوطنية ايضا ورسمت ما يلي
الحسين.. حكم بالخلق وكان شرفه نسبه واغدق عليها من الاخوة ما انساها بعض حزنها الجليل على ابو جهاد كان باذخا في انسانيته حد الابوة والتمس منها ان تقيم في عمان بيت العرب..
وقد كان حافظ الاسد… الحاكم العنيد الذي جلس يقنع ام جهاد وهي التي فقدت ملهمها ورفيق دربها، بعدم ضرورة ولا جدوى ان يكون للفلسطينيين كيان فهم جنوب سوريا
كانت صورة حافظ الاسد قاسية فيها برود، وهكذا لو تعدلت صورة القسوة هذه ربما ان حال الشقيقة الحبيبة اقل سوءا
معمر القذافي.. ذلك الصحراوي الذي لم يستطع انتظار التاريخ في اي محطة ليصنع له ذكرى او عنوان، حالف ايران ضد العراق، وتحسر على صدام حسين بعد اعدامه، وخاصم فلسطين واسندها، وقاتل اللبيين وقتل
تلك صورة العاشق لذاته ولدوره، وهي صورة ادت الى الانتحار..
الثالثة:
الرواية الفلسطينية حول معركة الكرامة، وهي الرواية الفلسطينية الاولى التي انصفت الجيش العربي ودوره ووضعت دور الفدائيين في سياقه الموضوعي.
ان رواية ام جهاد لمعركة الكرامة تحفز المعنيين على الشاطئين (الاردني والفلسطيني) الى اعادة تأريخ الكرامة بصورة مرضية وتريح كل المعنيين..
اما الرابعة:
فهي ملحمة الكتاب وروحه، فهذا الركض الفلسطيني بين ان يفر (نضال ابنهما من بين يدي امه فيقفز ويموت ابن السنتين، (غير نضال الحالي) لان امه تلاحق يوميات نضالها فذلك اقصى ما تقدمه الام من تضحية في سبيل قضية مقدسة واحلى ما تعلمه لامة في فن التضحية لتنهض الامة من جديد، كذلك هذا الترحال الطويل المدى واخلاء المنازل على حين فجأة في ذلك فلسفة تفسيرية لغياب قيمة التروي عن حياة الفلسطينيين عموما
ان هذا الضياع لسيدة (قمة القمم) وهذه السرعة بطي المنازل والرحيل لهي امر حزين وامر مريع وان يهود يتحملون المسؤولية البشعة والتي ورثوها من قتلتهم النازيون وطبقوها كابشع ما يكون الاستلاب على شعب اضحى كله ضحية
ان قيمة التذكير تاخذ مداها، في كتاب سيرة هذه السيدة الرفيعة الذوق والارادة من غزة حتى بلاد الحرمين ثم الكويت ثم بيروت ثم دمشق فبيروت فعمان، فطرابلس الى تونس وهناك ابت رصاصات الغدر السبع وسبعين الى ان تنهي هذا التاريخ تاريخ مواسم الهجرات الفلسطينية
ان صورة السيدة البهية ام جهاد وهي تضع في حضنها على درج الغدر في سيدي بوسعيد ابنها نضال المعوض عن نضال الاول ورفيق حبها بين رصاصة ورصاصة كان له اخر الرصاص رصاصته قاوم بها واقفا والحرس والبستنجي يتمددان قتلى هذه الصورة المبكية
هي تلخيص لمعنى (النكبة) تلك الكلمة التي تأنف من الترجمة وتقرأ في كل لغات الارض والسماء لان نكبة فلسطين ليس لها في التاريخ الانساني من مثيل ليديك المقراين يا ست الشهادة ويا ست فلسطين ويا ست الستات الفلسطينيات كلهم.. الورد والسعد والحياة.