الإثنين: 23/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

النكبة.. جريمة مستمرة

نشر بتاريخ: 15/05/2023 ( آخر تحديث: 15/05/2023 الساعة: 12:00 )

الكاتب: عمار جبر

تحل اليوم الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، والتي ما زال شعبنا يعاني من آثارها المدمرة على كافة الاصعدة السياسية والجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وجابه انعكاساتها المدمرة بمفرده وبدون أي مساعدة، فالشعب الذي بلغ تعداده نهاية العام المنصرم 14.3 مليون نسمة - وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني- يعيش منهم 8.95 مليون نسمة في الشتات الممتد بين الدول العربية والمهجر والامريكيتين، شكلت النكبة تحولاً خطيراً في مناحي حياتهم، وانقسمت العائلة الواحدة لتعيش في أماكن مختلفة، وتم القضاء بشكل كبير على العائلة الممتدة التي هي أساس المجتمع الفلسطيني الريفي، وإنهاء شريحة من المعلمين والإقطاعيين والفلاحين والعمال والتجار وتهجيرهم، وحملتهم كلاجئين الى خارج الوطن، في مواجهة ظروف مجتمعية مختلفة عن واقعهم الفلسطيني، فالفلسطيني كان على أرضه مالكاً وليس مستاجراً، وكانت حياته الاجتماعية في الريف الفلسطيني تتمحور حول الأرض التي يمتلكها، مُشكلة حالة من الاكتفاء الذاتي الذي تطور في حالات معينة الى الوصول الى الآخر البعيد، مثل التصدير لبرتقال يافا الذي حصد شهرة عالمية وتحول الى علامة تجارية (jaffa)، وبعد النكبة أصبح رمزاً فلسطينياً أصيلاً في النوستالجيا الفلسطينية، وكان الواقع في المدن لا يختلف عن الريف فكانت المدن الفلسطينية مراكز حضرية مليئة بتجمعات العلم والادب والسياسة ومقصداً للعرب من كل الاقطار.

ومع بدء مأساة اللجوء التي عصفت بفلسطين، خُلق المجتمع الفلسطيني في المنفى، حاول اللاجئون جاهدين محاكاة واقع معيشي مشابه لما كانوا عليه في أرضهم، واعتباره مجتمعاً مؤقتاً -كما تم ابلاغهم بأن عودتهم ستكون بعد أيام قليلة- وكان العيش في مخيمات الإيواء التي أدارتها الأمم المتحدة بصعوبة بالغة -وما تزال- ، وشكلت لادارة شؤونها وكالة الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لاغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى)، لتدبير المعيشة فيها وادامتها ومحاولة تحويل الأماكن التي تم اختيارها لتشكل مخيمات إيواء ﻷماكن قابلة للعيش، فالعديد من المخيمات قُدمت في أماكن لا تصلح للسكن أو أراضي زراعية لا يمكن البناء عليها فبدأت تتشكل بفعل هذه الظروف مخيمات أطلق عليها مخيمات الصفيح -الزينكو-، التي شكلت نواة المجتمع الفلسطيني خارج وطنه السليب، والتي كانت السبب بظهور نمط اجتماعي لم يألفه الفرد الفلسطيني، فالتحول من الأنماط الثلاثة الرئيسية التي ينتمي لها الفرد الفلسطيني وتشكل المجتمع الفلسطيني ما قبل النكبة، الحضر (التجارة والنهوض العمراني والتعليم .. الخ)، وحياة الريف (الأرض والفلاحة والحصاد.. الخ ) والبداوة ( الرعي والبحث عن الماء والتنقل المستمر .. الخ) وذوبانها في نمط اجتماعي واحد وهو (اللاجئ)، الذي تتمحور حياته حول تحسين مكان السكن والبحث عن عمل داخل المجتمعات المضيفة والتي تطور فيما بعد إلى رحلة لجوء جديدة الى دولة اخرى بعد انعدام فرص العمل في المجتمعات المضيفة، والاعتماد كلياً على الأونروا كمصدر للمؤن الغذائية والطبية وخصوصاً في الفترة الأولى من نشوء هذه المخيمات، وبذل المحاولات المستميتة خلال السنوات الأولى التي تلت النكبة للاعتماد على النفس وخلق البيئة الامنة للاسرة حتى تستقيم معيشتهم.

لم تكن آثار النكبة على الواقع الحياتي والمعيشي للشعب الفلسطيني فقط، بل أصابت آثارها السلبية الفلكلور الشعبي الشعبي سواء الموروث أو المكتوب فتحول المسار الفني الى مواضيع مغايرة في المضمون والجوهر عما قبلها، وسبب ذلك الانتقال المفاجئ من الحديث عن الحياة اليومية بتفاصيلها الدقيقة وحيثياتها المختلفة مثل الزراعة ومواسم الحصاد وحفلات الزواج والمآتم والمواسم الشعبية الفلسطينية، الى الحديث عن واقع اللجوء والتشرد والضياع، وانقسام الاسرة بين المجتمعات المضيفة، والاختفاء القسري والحالة النفسية التي رافقت العديد ممن حضروا قتل اهاليهم والتمثيل بأجسادهم كما حدث في العديد من المجازر ومنها مجزرة دير ياسين وقبية، وتحول الفلكلور المحكي من حالة الحديث عن الفرح الى الحديث عن الحزن والغربه والاشتياق الى الوطن.

ومما لا شك فيه أن النكبة التي أمتدت إلى الألفية الثالثة، وامتدت الى الجيل الثالث بعد النكبة، تسببت في خلق آثار مدمرة في مسيرة الشعب الفلسطيني، ولا يزال أبناء هذا الشعب يحاولون مجابهة هذه الآثار والتي تغلغلت الى كل نواحي حياتهم، وكانت إحدى مظاهرها الاستيلاء على الموروث الحضاري الفلسطيني بكل جزئياته وتفاصيله، وبل التعدي على الحياة اليومية وأسلوب المعيشة واللباس والرموز التي تشكل الموروث الحضاري الفلسطيني، فالمحاولات ما زالت قائمة بشكل صريح وبكل وقاحة على ادعاء تملك هذا الموروث ونسبِه للاحتلال، فتعددت أوجه هذا الاستيلاء وطرق سرقته، فمثلاً التحريف المتعمد لأسماء القرى الفلسطينية العربية بشكل لا يدع للشك بأن أصولها عربية، كمثال قرية بيت محسير المهجرة -عام ١٩٤٨- التي تحول اسمها من الاسم الكنعاني الى (بيت مائير) وهو حسب الادعاء الصهيوني اسم أحد الزعماء الصهاينة -مائير بار ايلان- الذي ضغط لإقامة مستوطنة على أنقاض القرية الأساسية، والعديد من الأمثلة (بيت طريف تحولت الى بيت عريف، بئر السبع تحولت الى بير شيفع) والتي تدحض الرواية والادعاء الصهيوني بأنها أسماء توراتية تاريخية وأنهم قاموا بإعادتها الى أصلها، أي أن الأسماء العربية هي المشتقة من العبرية وليس العكس! ، ولكن هذه الدعاية تتجاهل بشكل كلي أن هذه الأسماء تعود الى العصر الكنعاني وما بعده، وليست عبرانية البتة بالشكل الذي تطرحه الرواية الصهيونية، والتي أستطيع الزعم بأنها أي اللغة العبرية بالأساس هي لغة قاصرة وعاجزة بشكل كلي عن مجاراة المسميات العربية للمدن والبلدات والقرى الفلسطينية، ولن تستطيع بأي شكل من الأشكال تحريف الأسماء الموجودة فعلياً بدون أن تسرق ولو جزء من الاسم الاصلي، ومن جهة أخرى يلغي هذا الادعاء وينسفه بالأساس هو انعدام أي دليل ملموس حتى الآن على الوجود اليهودي ضمن أي حضارة استوطنت أو غزت أو حتى أقامت في الأراضي التي شكلت فلسطين التاريخية، فالصهاينة ما زالوا عاجزين حتى اللحظة، ولديهم كافة الامكانيات والقدرة على تمويل البعثات الاستكشافية والدراسات، والتي لم تخرج بنتيجة علمية أو حتى فرضية رصينة واحدة مفادها أن اليهود قد أقاموا في فلسطين التاريخية، أو أنهم وصلوا الى أريحا بقيادة يشوع بن نون -يوشع بن نون- من هنا نستطيع التأكد من أن الهجمة الصهيونية على الموروث الحضاري الفلسطيني، هو ردة فعل سببه عجز الاحتلال وكل أدواته عن دعم فرضية الوجود اليهودي في فلسطين التاريخية بأي شكل من الأشكال، ولشيبع رغباته الاستيطانية عمل جاهداً على فرض (العبرنة والاسرلة) منطلقاً من مقولة شهيرة لبن غوريون " علينا استبعاد الاسماء العربية لأسباب سياسية، بما أننا لا نعترف سياسياً للعرب بحق امتلاك البلد".

أما بعد خمس وسبعين عاماً على هذه الجريمة الوقحة وللانسانية والمدعومة من جهات كولونيالية، استغلت القانون الدولي بشكل وضيع لتنفيذ مآرب استيطانية خاصة بهم، فيتوجب على المنظومة الدولية التي فرضت هذا الانتداب والذي أدى في نهايته الى تمكين الصهاينة على الاستيلاء على فلسطين التاريخية، البت وبشكل عاجل في مصير هذه الاحتلال وإنهائه بكافة الأشكال، فهو يمارس أقسى الممارسات في حق شعب ارتقت جرائمه ضده الى ما ابعد من الجرائم ضد الانسانية، فقد مارس المذابح والقتل الميداني والنفي والاسر والخطف والهدم بشكل يومي، ولم يردعه قانون أو صوت حق هنا أو هناك، إن إنهاء الاحتلال وكافة أشكاله واجب على الشعوب الحرة التي لا ترضى بأن ترضخ للاحتلال وممارساته وأذرعه التي تمارس أخس الممارسات حتى تلوي ذراع القانون الدولي وتميل الكفة لصالحها، إن إنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين وتبييض السجون والاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وتعويض الشعب الفلسطيني عن الجريمة النكراء بحقه، واستباحة موارده الطبيعية وثرواته وإعادة ما نهب من أمواله إبان النكبة وبالأخص مما زال في خزائن دولة الانتداب البريطانى، هي مطالب الشعب الذي عانى وما زال طيلة سبعة عقود ونصف تحت هذا الاحتلال، الذي ما جلب لفلسطين إلا الويلات.

الحرية لفلسطين شعباً ومقدسات وأرضاً وهواءً وبحراً، المجد والخلود لشهداء الدفاع عن عروبة وطهر هذه الأرض المقدسة، والحرية العاجلة لأسرى الحرب التي تدور رحاها خمس وسبعين عاماً وما زالت، والشفاء لكل روح عذبها هذا الاحتلال.