الكاتب: زاهر ابو حمدة
قال الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، للقائد خليل الوزير، وهو يصف له تعقيدات المشهد الفلسطيني عشية انطلاق الثورة الفلسطينية، وقد التقاه الوزير للاستئناس برأي الثائر المخضرم: «تتداخل في قضيتكم العوامل المحلية والدولية كتداخل أسنان القرش، ما إن تنطلقوا بالثورة حتى تجدوا أنفسكم وسط غابة أعداء، بما في ذلك من أبناء جلدتكم، أنتم في بؤرة تقاطع حساسة جداً لمصالح دولية وإقليمية كبرى».
من كتاب «رحلة لم تكتمل... محطات على طريق المقاومة» للمناضل محمد يوسف (أبو علاء منصور) من إصدار «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» (2018).
وقف الجنرال إدموند ألنبي، متفاخراً فرحاً، معلناً بيانه الأول: القدس سقطت. كان ذلك في كانون الأول عام 1917. فرض الاحتلال البريطاني الأحكام العرفية، وأصبحت المدينة المقدسة تحت السلطة الغربية بعدما كانت لمدة 400 عام (1517-1917) تحت سلطة الباب العالي في الأستانة. حينها يمكن القول إن اتفاق «سايكس بيكو» يمكن تنفيذه وكذلك «وعد بلفور». أمّا الأهم، فيمكن اعتبار هذا التاريخ هو بدء الاستعمار الغربي للمنطقة وبدء ضياع فلسطين.
اللافت في تلك المرحلة، ما كتبه رئيس الوزراء البريطاني دافيد لويد جورج في مذكراته «War Memoirs of David Lloyd George:1914-1915» الصادرة عام 1933، أنه فرح كثيراً بسقوط القدس واعتبرها هدية عيد الميلاد «وأنه استطاع تحرير أقدس مدينة في العالم، وبتحريرها تمكن العالم المسيحي من استرداد أماكنه المقدسة». وبعيداً من المنحى الديني لما حصل واستحضار الحروب الصليبية، إلا أن هزيمة العثمانيين في معركة قرية شلتا، مكّنت البريطانيين من السيطرة العسكرية على القدس. وحول أسباب الهزيمة أو تسليم القدس من دون قتال يُذكر، فكان الجوع في صفوف الجيش العثماني وعدم وجود خطة دفاعية في جنوب فلسطين. ولعل ما قاله المتصرف التركي عزت بك، حين اجتمع بمفتي القدس كامل أفندي الحسيني ورئيس البلدية حسين سليم أفندي الحسيني، إن «المدينة ستسقط لا محالة» وأبلغ الحاضرين بضرورة الاستسلام حفاظاً على الأماكن المقدسة، ومنع تدميرها، ولا سيما المسجد الأقصى. المؤسف بما حصل أن عرباً قاتلوا حينها مع الإنكليز ضد الدولة العثمانية، فالجنرال ألنبي استعان بالقبائل العربية الرافضة للحكم العثماني بقيادة الشريف حسين ونجله الأمير فيصل. وبعيداً من دوافع الشريف حسين وأنصاره وقيادة الضابط البريطاني توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، ما كانت القدس لتكون بيد البريطانيين أي بيد العصابات الصهيونية لاحقاً. فلولا تعاون «الثوار العرب» ما استطاع البريطانيون السيطرة على ميناء العقبة، ومن ثم تمكن أسطولهم من أن يرسو فيه ليكون منطلقاً لاحتلال فلسطين وسوريا.
يكتنز التاريخ الفلسطيني لحظات كانت فيها الخيارات صفرية أو كثيرة. تبدأ من الحرب العالمية الثانية، ومع أي صف يجب أن نكون، وعلى حصان من نراهن لنضمن أهدافنا. فانقسم الفلسطينيون: «الحسينيون» مع دول المحور، و«النشاشيبيون» مع قوات الحلفاء. وفي مراحل متعددة كان يجب اتخاذ موقف مع طرف لأسباب يطول شرحها من الناحية الأخلاقية المبدئية أو المصلحية. ولأن الشعب الفلسطيني متنوع الأيديولوجيات، تعددت التوجهات بالنسبة لقطب الاتحاد السوفياتي (حلف وارسو) أو القطب الغربي (حلف شمال الأطلسي)، حتى داخل التوجه الاشتراكي انقسمت التيارات بين بكين وموسكو. أما على الصعيد الإقليمي، تعددت الآراء في الصراع مع الأنظمة، وفي الحرب الإيرانية-العراقية وكذلك حرب العراق على الكويت، كانت المواقف الفلسطينية غير ضامنة للمصالح الفلسطينية وفقاً لنتائج الحروب. ولذلك التأثير الدولي والإقليمي في القضية الفلسطينية كان أكبر من تأثير الفلسطينيين في سياقات الأحداث.
وفي غالبية الأحيان دفعوا الثمن في السياسة والتحالفات والدم أيضاً. ولعل ما أشار إليه المؤرخ الفلسطيني الأميركي رشيد الخالدي، في كتابه «حرب المئة عام على فلسطين؛ قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917 - 2017» (الدار العربية للعلوم ناشرون 2021) أن 6 أحداث أو حروب، بحسب قول الخالدي، تمثّل تحوّلاً في الصراع على فلسطين. وبنظره تبدأ الأحداث الستة بإعلان الحرب الأول (1917-1939) أي وعد بلفور وما تلاه، وإعلان الحرب الثاني (1947-1948) أي قرار التقسم والنكبة، وإعلان الحرب الثالث (1967) أي هزيمة حزيران، وإعلان الحرب الرابع (1982) أي اجتياح لبنان وحصار بيروت وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وإعلان الحرب الخامس (1987-1995) أي الانتفاضة الأولى وصولاً إلى اتفاق أوسلو، وإعلان الحرب السادس (2000-2014) أي الانتفاضة الثانية وصولاً إلى حصار قطاع غزة من قبل إسرائيل والحروب المتكررة عليه. هذه المراحل المفصلية اقترنت بتطورات دولية وإقليمية، ولم تكن لمصلحة الفلسطينيين. وربما أهم مثال على ذلك، ما حصل أثناء الانتفاضة الثانية، هجمات 11 أيلول التي نفذتها القاعدة في أميركا، حينها تحول ياسر عرفات إلى «حليف أسامة بن لادن» بنظر كل أعدائه أو هكذا أرادوه ليقتلوه وينهوا الانتفاضة.
منذ ما قبل النكبة، لم يحصل أن تكون التحولات الدولية والإقليمية لمصلحة القضية الفلسطينية كما هي الآن. هي لحظة فلسطينية يجب استثمارها بدل أن يستغلها الاحتلال لمصلحته. هذه التحولات تبدأ بأوكرانيا، ولا تنتهي بالحضور الصيني إلى منطقة غرب آسيا، مروراً بالمصالحة الإيرانية - الخليجية. ولكن على صانع القرار الفلسطيني أن يحدد أولوياته، ويضع خياراته بالنسبة للمعسكرات الدولية. وإذا كانت إسرائيل في المعسكر الغربي، فحتماً على الفلسطيني أن يكون في المعسكر المضاد، ولا سيما أن الأميركيين لن يتخلوا عن إسرائيل كدولة وظيفية وحليف استراتيجي، ولن تهمهم المصالح الفلسطينية. في المقابل، يمكن توظيف المصالحات الإقليمية خدمة للأهداف الفلسطينية. وهنا وجب تحديد هذه الأهداف وأساليب تحقيقها. أمّا بالبقاء في خانة المراهنة على حلول «الرباعية الدولية» ستكون الخسارة أفدح مما سبقها. هي لحظة فلسطينية لن تتكرر يمكن في خلالها بناء مشروع فلسطيني متكامل يمكن فرضه وسط كل التحولات. وبدل من أن يكون الفلسطيني لاحقاً بالتغيرات يجب أن يشارك فيها.